المُعلّم تشُغيام ترُنغْبا رنبوشيه

في التأمل والحضور الذهني للعلامة تشوغيام ترونغبا رنبوتشي Chögyam Trungpa Rinpoche

Written by Dharmabustan

التأمل والحضور والتأمل والحضور Mindfulness and Meditation

العلامة تشوغيام ترونغبا Chögyam Trungpa 1939 – 1987  مؤسس Shambala في أميريكا. والشمبالا مجموعة من المبادئ والممارسات التي يرى ترونغبا أنها ممارسات علمانية لخلق مجتمعات علمانية متنورة وعادة ما يطلق عليها أيضا المسار الروحاني للمحاربين من أجل النور:

 من مقالة للمعلم ترونغبا حول التأمل والحضور الذهني “Meditation and Mindfulness ” 

“بالنسبة للمهتمين باتباع تعاليم الدارما – التعاليم البوذية – هناك حاجة للتشديد على ممارسة التأمل، لابد أن يدرك الممارس المنطق البسيط بأن الذهن هو منشأ التشويش، ومن خلال تجاوز التشويش نصل لحالة الاستنارة وهذا يمكن الوصول إليها فقط من خلال ممارسة التأمل. والبوذا نفسه دخل في هذه التجربة من خلال العمل مع ذهنه وتم تناقل ما تعلمه ليصل إلينا.
من الطرق الأساسية في المسار الروحاني الحضور الذهني (Mindfulness) وهو أمر تشترك به كل مدارس الفلسفة والتعاليم البوذية. وقبل أن أن نبدأ بالنظر عن قرب إلى هذه الطريقة، ينبغي أن تتشكل لدينا فكرة حول  المقصود بالروحانية نفسها. يقول البعض أن الروحانية تعتبر أسلوبا للوصول إلى شكل أفضل من السعادة، سعادة سامية، وينظر آخرون للروحانية على أنها شكل جيد لتطوير قوة للسيطرة على الآخرين، وما يزال البعض الآخر يرى أن الغرض من الروحانيات هي اكتساب قوى سحرية حتى نغير عالمنا السيء الى عالم أفضل وتنقية عالمنا من خلال المعجزات. يبدو أن لا شيء من وجهات النظر تلك لها علاقة بوجهة النظر البوذية، فبناء على البودية تعني الروحانية الربط بين الأمور بناء على وجودنا وهو حالتنا الذهنية. وهناك مشكلة في حياتنا، مشكلة في وجودنا، وهذه المشكلة أننا في صراع دائم للبقاء للإبقاء على وضعنا، فنحن باستمرار نحاول التمسك والتشبث بصورة ثابتة لأنفسنا، وعندها نقوم بالدفاع عن ذلك المفهوم الثابت (الذي شكلناه حول أنفسنا). اذا هناك حرب وصراع، وهناك تشويش وهناك انفعال وعداء، هناك جميع أشكال الصراع، ومن وجهة نظر البوذية فإن تطوير الروحانية يتمثل في أن نشق طريقنا وسط التشبث والتعلق وذلك التمسك بشيء أو بآخر – وهذا يعرف بالأنا”.

وحتى نفهم ما هو “الأنا”، ما الغرض من كل هذا؟ ومن نحن؟ من الضروري أن ننظر في حالتنا الذهنية الحالية، وينبغي أن نعرف الخطوة العملية التالية لفهم ذلك. وليس القصد هنا الدخول في نقاش ميتافيزيقي حول الغاية من الحياة ومعنى الروحانية على المستوى المجرد، فنحن ننظر للموضوع من وجهة نظر عملية ومفيدة، فنحتاج إلى أن نجد شيئا بسيطا نقوم به حتى نبدأ مسارنا الروحاني.
يجد الناس صعوبة في البدء بممارسة روحانية ما لأنهم يبذلوا الكثير من الجهد والطاقة في البحث عن أفضل وأسهل الطرق للقيام بذلك، وربما نحتاج أن نغير موقفنا ونتوقف عن البحث عن الأفضل والأسهل، وفي الواقع لا يوجد خيار، فأي طريق نختار يملي علينا ضرورة التعامل مع وضعنا الحالي، وبناء على الفلسفة البوذية، فإن الذهن يعتبر القاعدة الأساسية التي ينطلق منها العمل في المسار الروحاني والطاقة المرتبطة بذلك: ذهننا الذي يعمل فينا طوال الوقت.
وتقوم الروحانية على الذهن، والذهن في الفلسفة البوذية هو ما يميز الكائنات الواعية عن الصخور والأشجار والمياه، ذلك الشيء الذي يتمتع بوعي يميز بين الأمور، ولديه إحساس وادراك للثنائية، والذي يتعلق بأشياء خارجية أو يرفضها – ذلك هو الذهن، هو ذلك الشيء الذي يوجد علاقة بين نفسه و”الآخر” – مع أي “شيء” يتم إدراكه على أنه مختلف من الفاعل الذي يقوم بعملية الإدراك، هذا هو تعريف الذهن، والتعريف الذي نجده في تراث التبت: “ذلك الذي يمكن أن يفكر في الآخر – أي الإسقاط – هو الذهن.

إذن ما نقصده بالذهن هو شيء محدد جدا، فهو ليس شيء غامض جدا ومخيف داخل رؤوسنا وقلوبنا، شيء يحدث هكذا مثل الريح التي تهب، والنباتات التي تنمو، بل هو شيء ملموس جدا، فهو يحتوي على الإدراك – الإدراك غير المعقد البتة، وهو أساسي ومحدد جدا، ويطور الذهن طبيعته المحددة حيث يبدأ الذهن بالتلكؤ على شيء آخر عدا نفسه، ويجعل الذهن إدراك شيء آخر وكأنه هو نفسه.
وهذه الحيلة الذهنية تشكل الذهن، وفي الواقع يجب أن يكون العكس من ذلك، فالادراك يبدأ من النفس فينبغي أن يكون المنطق: ” أنا موجود إذن فالاخر موجود”، لكن نفاق الذهن يتطور بشكل يجعل الذهن يتلكأ على الآخر كطريقة في الحصول على تغذية راجعة يؤكد له وجوده وهذا اعتقاد خاطئ في أصله، ففي حقيقة الأمر، تضع الأنا علامات استفهام حول وجودها وهذا يحفزها على أن تخدع نفسها بالثنائية.
وذهننا هو القاعدة العملية لممارسة التأمل وتطوير الوعي، لكن الذهن أكثر من مجرد تأكيد وجود الذات من خلال الثنائية والتلكؤ على آخر، فالذهن يتضمن العواطف والانفعالات وهي أحوال ذهنية.


والذهن لا يمكنه الوجود دون عواطف، فأحلام اليقظة والأفكار المتقطعة ليست كافية، فهي وحدها ستكون مملة بالنسبة له، فحيلة الثنائية ستبدو ضئيلة جدا، ولذلك نميل لخلق أمواج من العواطف والانفعالات التي تتلاطم بنا كالأمواج: الشغف، العدائية، الجهل، الغرور – جميع أشكال الانفعالات، ففي البداية نخلقها عمدا كلعبة لنثبت وجودنا، لكن تتحول الخدعة في نهاية المطاف إلى أمر صعب، فتصبح أكثر من لعبة وتجبرنا على تحدي أنفسنا أكثر مما أردنا. والتأمل ليس نشاطا اقصائيا ننسى فيه العالم ونستغرق في شيء آخر، ففي التأمل نتعامل مع ذلك الذهن ذاته الذي صمم النظارات ووضع عدساتها وإطاراتها.

لقد خلقنا عالما مزيجا من المتعة والمرارة، فالأشياء تبدو مسلية وفي نفس الوقت تبدو غير مسلية، وتبدو بعض الأشياء مضحكة جدا ومن ناحية أخرى تبدو محزنة جدا، وكأن الحياة لعبة وقعنا في فخها، وقد خلقت وضعية الذهن كل هذا، فقد نشكو من الحكومة أو الوضع الاقتصادي في الدولة أو ارتفاع أسعار الفائدة، لكن تعتبر هذه العوامل ثانوية، وأساس المشكلة هو التنافسية الناشئة عن رؤية الذات كانعكاس للآخر. وتنشأ المشاكل تلقائيا كتعبير عن ذلك، فهي مشاكلنا فهي من صنعنا الذي أتقناه. وهذا ما نطلق عليه الذهن.
وحسب التراث البوذي هناك ثمانية أشكال من الوعي واثنين وخمسين نوع من المفاهيم وجميع أشكال ومظاهر الذهن، والتي لا أرغب في الخوض في تفاصيلها الآن، وهي تقوم بشكل كبير على النظرة الثنائية، وهناك المظاهر الروحانية والنفسية وكافة الأشكال من المظاهر الأخرى، وكلها تقع ضمن إطار الثنائية، وهذا هو الأنا.
وبالنسبة لممارسة التأمل، يعتبر هذا محور عملنا بدلا من محاولة حل المشكلة من الخارج، فنحن نوجه جهدنا على الفاعل والذي يقوم بالاسقاط وليس على الاسقاطات ذاتها، فنحن نحول انتباهنا نحو الداخل بدلا من تصنيف مشاكلنا إلى” أ” و”ب” و”ج”. فنحن نعمل على الفاعل وهو مصدر الثنائية بدلا من الأشياء التي أنتجها، وهذه هي البداية في البداية.

يقول المعلم ترونغبا: “إذا قررنا أن ننظر بحيادية سنجد أنه رغم كل مشاكلنا وتشويشنا، وتقلبات الحياة العاطفية والنفسية الحسنة والسيئة، هناك خير متأصل فينا كبشر. ومن الصعب أن نأمل في تحسين حياتنا إذا لم نكتشف تلك الطبيعة أو الأرضية الخيّرة فينا. فإذا كنا يائسين وتعساء كيف لنا أن ندرك أو حتى نتخيل مجتمعا متنورا. اكتشاف الطبيعة الخيرة فينا يأتي من تقدير أشياء بسيطة جدا، ونحن هنا لا نتحدث عن كسب ملايين الدولارات ولا التخرج من الجامعة أو شراء بيت جديد، لكن الخير في مجرد وجودنا أحياء والذي لاعلاقة له بانجازاتنا أو ما حققناه أو ما نتمناه من رغبات. ونحن نعيش ومضات ندرك فيها الخير في كل الأوقات، لكننا لا نقدر ذلك، فعندما نرى لونا لامعا فإننا نشهد طبيعتنا الداخلية الخيّرة، وعندما نسمع صوتا جميلا فإننا نسمع طبيعتنا الخيّرة، وعندما نأخذ حماما نشعر بالانتعاش، وعندما نخرج من غرفة مضغوطة نشم نسيم الهواء المنعش. قد تأخذ هذه التجارب جزءا من الثانية، لكنها تجارب حقيقية من الخير، ونحن نتعامل معها على أنها أمور زائلة أو محض صدفة. بناء على مبادئ الشمبالا (Shmabala) من المهم ملاحظة تلك اللحظات والاستفادة منها، لأنها تكشف عن لحظات من الانتعاش والسلام – أي الخير المتأصل فينا. وهذا الخير الموجود في كل انسان فيه كم هائل من اللطافة والتقدير، فنحن كبشر نقدر الجمال، ويمكننا أن نقدر ونثمن أفضل ما في العالم، يمكننا أن نقدر اصفرار اللون الأصفر والحمرة في اللون الاحمر، واخضرار الأخضر، فهذه تجربة حقيقية، فالأصفر أصفر ولا يمكننا أن نقول بأنه أحمر، فهذا مناقض للواقع، وعندما تشرق الشمس لا يمكن أن نقول ياله من شيء مروع، فلا يمكننا أن نقول ذلك حول شيء مثل يوم مشرق أو عند تساقط الثلج، فهذه أشياء نقدرها. وعندما نقدر الواقع فان ذلك يعمل فينا. ويمكننا أن نشفي أنفسنا من الاكتئاب إذا أدركنا أن عالمنا خيّر.”

بالنسبة للجانب العلمي من حيث البحوث الحديثة في مجال (compassion) أو الرأفة أو كما يعرفها الدالاي لاما ” الانفتاح على معاناة الآخرين مع الالتزام بتخفيفها” وأما الحب فهو هو “تمني السعادة للآخرين”. تذكر إحدى الدراسات أنه رغم تزايد الدراسات التي تثبت أن تنمية الشفقة والرغبة في رفع المعاناة عن النفس وعن الآخرين تحدث آثارا كبيرة في تعزيز العواطف الإيجابية ، إلا أنه بالنسبة لبعض الأفراد الذين يعانوا من النقد الشديد للذات من الصعب أن يتقبلوا رغبة الآخرين في رفع المعاناة عنهم أو حتى تصل للخوف من ذلك.

وممارسة التأمل على الرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين وبشكل منتظم تؤثر على ردود أفعالنا تجاه التوتر وتؤثر أيضا على الدماغ الأمامي (مع الانتباه على التأمل الذي يقع في فخ تعظيم الأنا والذي قد يتسبب بأمراض نفسية). وكذلك ممارسة التأمل على اللطف بمحبة يرفع من العواطف الإيجابية والدعم الاجتماعي ويقلل من أعراض الأمراض، والإحساس بالروابط الاجتماعية واللطف تجاه الآخرين والغرباء. وكذلك الدليل العلمي في ازدياد الذي يثبت أن ممارسة وتنمية الرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين تمثل ترياقا لبعض المشاكل النفسية والعقلية ومنها الاكتئاب والقلق. وهناك مدارس في العلاج النفسي الغربي تقوم على العلاج من خلال تنمية الرأفة وهي تقلل من مشاعر الذنب ونقد الذات والاكتئاب والقلق والتوتر. لكن مثل هذا العلاج لم ينفع مع فئة من المرضى الذين يظنون بأنهم لا يستحقون هذه المشاعر من الآخرين.
من الملفت النظر في ردود فعل الناس تجاه مشاعر الآخرين في الرغبة في رفع المعاناة عنهم، فهي عند البعض تثير مشاعر الخوف أو الرغبة في تفادي من يقدم لهم مثل هذه المشاعر. وهناك بعض من يعانون من الاكتئاب ويخافون من المشاعر الايجابية فبعضهم يخاف من مشاعر السعادة لأنه إذا كنت سعيدا اليوم سيحدث شيئا  غدا، ويذكر أحد المرضى كيف أنها في طفولتها كانت تشعر بلحظات من السعادة لكن أمها تأتي بحالة من الغضب المفاجئ والانتقاد، ولذلك قررت ألا تشعر بالسعادة مرة ثانية لأن هذا يجلب أحداثا سيئة، ولاحظت مريضة أخرى أنها عندما كانت تشعر بالسعادة في بعض الأحيان كانت تراودها أفكار أن مكروها ما قد يحل بأطفالها أو زوجها وأدركت كم تخاف من مشاعر السعادة، وكيف أن ذلك يعود لأحداث في بداية حياتها، وهكذا فإننا نضع شروطا على المشاعر الإيجابية بل وربطها بأحداث منفرة، وكذلك قد ينشأ الخوف نتيجة لربط المشاعر الإيجابية الاجتماعية بأحداث الإساءة والخذلان.
ولذلك فقد ينشأ صد للمشاعر الإيجابية من الآخرين، والنظر إليها على أنها تهديد، وهذا يشكل مشكلة لأن هذه المشاعر تنظم أحاسيس التهديد والعزلة الاجتماعية. وكذلك قد تحدث مشاعر الدفء المرتبطة بمشاعر الرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين بإثارة مشاعر الرغبة في الشفقة لكن دون تقبل الدفء والرعاية من المقربين منهم، مع زيادة في الوعي بالوحدة الداخلية والحنين لعلاقات تقبلهم وتثمّنهم. وإذا كانت مشاعر الحزن والهم عند البعض – والتي تحفزت نتيجة لمشاعر اللطف والرأفة من الآخرين أو الذات – والتي تعلمنا كبتها وفصلها عن أنفسنا، فلم تعد مألوفة لدينا، وقد تستحوذ علينا أو تتسبب في مزيد من مشاعر الانفصال عن الواقع أو عن أنفسنا.
وقد يرى البعض في طلب المساعدة ضعفا أو ينظروا للآخرين الذين يعانون بازدراء أو احتقار.
لكن الأشخاص الذين عاشوا في بيئات آمنة ينظرون للآخرين على أنهم مصدر للأمان والدعم ويلجأون لطلب المساعدة والدعم عندما يصابون بالكدر أو الانزعاج ويفتحوا أنفسهم ويتقبلون المساعدة والحب من الآخرين.وعلى العكس من ذلك الأشخاص الذين جاءوا من بيئات غير آمنة ولديهم شك تجاه دعم الآخرين لهم أو توفرهم لهم، وهم عرضة اما لتجنب الآخرين أو ربط الانزعاج بأشخاص دون الاحساس بالتحسن.

أتمنى أن تفيد هذه الاضاءات في فهمنا لهذه المشاعر الإيجابية ومحاولة فهم بعض ردود الأفعال لها سواء داخلنا أو داخل الأشخاص الآخرين. وكذلك فهم الحضور بداية بتقبل الأمور داخلنا وخارجنا كما هي، الأحمر أحمر والأصفر أصفر.”

About the author

Dharmabustan

إ

Leave a Comment