بوذية التبت

بوذية التبت – الجزء الثالث

Written by Dharmabustan

بوذية التبت - الجزء الثالث

هذه سلسة من بعض الأجزاء حول تاريخ البوذية في التبت  ملخصة

من  كتاب  Indestructible Truth للدكتور Reginald Ray

“في الفلسفة البوذية هناك طريقتين أساسيتين في السير على المسار البوذي: طريق الدراسة وطريق التأمل. ومع أنه يتم الجمع بينهما بنسب مختلفة إلا أنه من المفيد التمييز بينهما. وفيما يلي وصف لهتين الطريقتين من المعلم تشوكي نييما Chokyi Nyima Rinpoche (وهو من المعلمين الذين يركزون على التأمل):

“ان أسلوب العالم أو الدارس هو دراسة كل التفاصيل والتأمل فيها بتأني وصقل فهمه من خلال دراسة تعاليم بوذا وتعاليم المعلمين المستنيرين بالاضافة للقدرات الذهنية للشخص الدارس نفسه. من خلال ذلك يستطيع الشخص أن يُنشئ فهما واضحا وواقعيا لحقيقة الأشياء … لكن الانبهار بالتحليل والنقد وطرح الأسئلة يحول بين الشخص وبين اتخاذ أسلوب في التأمل البسيط ومن الوصول لشكل من التيقن أو التحقق الفوري من طبيعة الخلو emptiness (وهي مفهوم خاص بالبوذية ولا تعني الفراغ أو اللاشيء فهذا يؤدي للقول بالعدمية – والبوذية جاءت طريقا وسطا فهي لا تقول بالعدمية ولا تقول بالوجود الثابت الراسخ للأشياء والوجود). ويمثل ادراك الخلو الطبيعة المستنيرة وجوهر البوذات. ولذلك يرى بعض الناس نفعا أكبر في الأسلوب التحليلي للدارس والذي من خلاله تتبدد فيه الشكوك والجهل تدريجيا وهذه أحد الأساليب للسالك في المسار البوذي وهو أسلوب رائع. وهناك طريق آخر حيث يشعر الشخص أنه ليس لديه الميل لدراسة كل تعاليم بوذا وتعاليم المعلمين المستنيرين أو التحقق منها بقوة الذهن والتفكير والاستدلال العقلي. بل يرغب بالتركيز مباشرة على جوهر الحالة المستنيرة والتي تدرك كل شكل محتمل من أشكال المعرفة كما هو – وعلى نحو يتماشى وشخصية الفرد وتجاربه الخاصة به أو بها. ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لديهم اهتماما كبيرا باتخاد طريق طويل ومليء بالالتفافات من الدراسات المستفيضة والتحليل بتمعن، وبدلا عن ذلك يرغبون في ادراك ومعاينة مباشرة. ولأجل هؤلاء الناس هناك أسلوب تقديم جوهر  التعاليم (حول التأمل) – بما في ذلك التعاليم المتقدمة في الماهامودرا Mahamudra  ودزوغشن Dzogchen . ”

تعتبر الماهامودرا ودزوغشن  جوهر التأمل في ناقلة الفاجرايانا البوذية في التبت. وقد شقت البوذية الهندية طريقها للتبت بين القرنين السابع والثاني عشر للميلاد. وقد تزامن هذا مع فترة الذروة للبوذية الهندية حيث تجلت نضوجا وثراءا وتنوعا.  وكان هناك تنوعا هائلا في سلاسل المعلمين والتعاليم البوذية التي كانت في متناول التبتيين في تلك الفترة. وهذه التعاليم تتمثل في الناقلات الثلاثة: الهنايانا والماهايانا والفاجرايانا – وكانت الدراسة العلمية والتدرب والفهم العميق لهذه الناقلات والأشكال المختلفة للفلسفة البوذية في أوجها  في تلك الفترة. وكذلك كانت جامعة نالاندا للرهبان  the monastic university of Nalanda بشهرتها العالمية حيث كان يسكن في حرم الجامعة أكثر من عشرة الاف شخص من كل أرجاء آسيا. وفي هذه الفترة أيضا ظهرت الأديرة العظيمة مثل فيكراماشيلا Vikramashila  واودانتابورا Odantapura  وسومابوري Somapuri. كانت الأديرة التقليدية موجودة جنبا لجنب مع التعاليم غير التقليدية وسلاسل المعلمين والمتدربين غير التقليديين الذين اتخذو من الغابات ملجأ لهم ولتدربهم ودراستهم. وكان اليوغيين واليوغينيات من غير الرهبان والراهبات householder yogis and yoginis  يحملون تعاليم التانترا. وكانت هناك مناطق في الهند اعتنت بتقديم تفاسير وشروحات لكل مطاهر هذه التيارات. فعندما نرى التنوع الهائل في البوذية التبتية لا حقا، نعلم أن جذورها تضرب مباشرة في الهند والبيئة الهندية فيما بين القرنين السابع والثاني عشر الميلاديين. لكن مع نهاية هذه الفترة جاءت النهاية لكل هذا الثراء والابداع في الهند مع الغزو الاسلامي للهند عام 1200 ميلادي والذي اجتث البوذية في شكلها المؤسسي من شمال الهند، حيث قامت الحملات الاسلامية  بحرق النصوص البوذية وتقتيل الرهبان والراهبات وتدمير الأديرة البوذية الرئيسية في الهند.

تنطلق البوذية من وجود الارتباط بين جميع أشكال الوجود مهما دقت أو كبرت. فمن الأمور الأساسية في إرث البوذية التبتية علم الكون التبتي (cosmology) للعالم غير المرئي. فإن تجلي كائنات من العالم غير المرئي يعتبر حدثا أو شأنا هاما في هذا الإرث الروحاني. وهو يعتبر مُبَادَأَةٌ أو مفاتحة من جانب هذا العالم لإنشاء شكل من العلاقة. وإذا كان هذا التجلي لكائن مستنير من البعد المطلق أي بوذا– فهذا أمر عظيم وحدث هام فهو يوفر توجيها في حياة الشخص، وإذا كان الكائن غير المرئي من هذا العالم فإن المعلومات التي ستشاركنا بها إما تكون سلبية أو إيجابية ويمكن أن تساعدنا في حياتنا. ومن وجهة نظر البوذية التبتية تعتبر العلاقات مع العالم غيرالمرئي ضرورية من أجل نجاح الحياة البشرية. ولايوجد أي معنى  في تجاهل العالم غير المرئي و يترتب على ذلك نتائج غير ايجابية تماما مثل تجاهل المجتمع البشري حولنا وليس من السهل أن نعيش كذلك.

والبوذية إرث روحاني إلحادي وهذا يثير سؤالا هاما: ماذا عن ما نجده في البوذية التبتية من آلهة وكائنات لا مرئية وعالم الآلهة وحُماة الدارما أو تجليات كائنات العالم المطلق أو البوذات أو الكائنات المستنيرة؟ ومن وجهة نظر الإرث التأملي والفلسفي للبوذية تعتبر الكائنات غير البشرية كمظاهر للذهن وغير منفصلة عنه. لكن ماذا يعني هذا؟ وغالبا  خاصة في الغرب  يعتبر هذا الأمر  – والذي يؤخذ بحرفية ودون شك في الفلسفة التبتية  – على أنه  أنه ليس حقيقة خارجية بل اسقاطات لحالات نفسية وذهنية على العالم الخارجي. وهذا يجعله مُبررا أن يتم طرح هذه المعتقدات جانبا وأنه لا وجود لكائنات غير مرئية عند ملائمة هذه الملامح من الفلسفة البوذية مع الثقافة الغربية. والمشكلة في مثل هذه الأساليب من التعامل مع هذا الموضوع أنها تعكس سوء فهم لعبارة ” ان هذه الكائنات هي مظاهر للذهن وغير منفصلة عنه”. (الذهن قادر على ادراك المُطلق واستيعابه وهذه احدى مزاياه، فهو اذا قادر على الاتصال بأي بعد أو عالم وهذا قد يكون ما يقصد به عندما نقول أن الذهن غير منفصل عن العالم المطلق أو أي من مظاهر العالم غير المرئي).

(وهنا نجد انفسنا أمام مفرق طرق بأن نتعامل برمزية مع هذه كما يفضل الكثير من الغربيين أو نفتح لذهننا المجال في أن يجرب ويختبر ويستكشف كيفما يشاء).

ناقلات البوذية الثلاثة

الناقلات الثلاثة – الهنيانا، والماهيانا وتانترا الماهيانا (الفاجرايانا):

تسمى ناقلات لأنها تنقل الذهن من خلال تعاليمها من حالة أو مستوى لآخر.

يرى التبتيون في الناقلات الثلاثة أنها تشكل المراحل الرئيسية الثلاثة في المسار البوذي. فيبدأ المسار نحو الاستنارة من خلال ممارسة الهنيانا بداية ثم الماهايانا ثم الفاجرايانا. ويدخل الشخص في الهنيانا بأن يأخذ الملجأ في بوذا وتعاليم الدارما ومجتمع المتدربين أي السانغا. وبعد ذلك يسعى الشخص في التدرب على حياة أخلاقية والتدرب على التأمل. ثم يدخل في ناقلة الماهايانا بأن يأخذ عهود البوديساتفا من أجل العمل على نفع جميع الكائنات وكذلك نفسه. ثم يدخل مسار الفاجرايانا حيث يوفي بعهود البوديساتفا من خلال طرق متعددة من تدريبات التأمل.

 

(اتخاذ الملجأ)

“ذكر أحد المعلمين أن اتخاذ الملجأ ببساطة هو شكل من الالتزام بعدم ايقاع الأذى بالنفس والآخرين. وقد أصبح مصطلح “الملجأ” من المصطلحات الشائعة في ترجمة البوذية على الرغم مما قد يحمله من إنطباع خاطئ. كلمة الملجأ توحي كما لو أن الشخص سيحتمي بشيء من خارجه ليقيه معاناة السامسارا أي دائرة تكرار الميلاد، وليس هناك شيئًا أبعد عن الحقيقة من هذا. في البوذية، الملجأ الحقيقي هو التحقق الذي نصل إليه، مثل المريض الذي يسعى للتعافي، التعافي هو حالة الخلو من المرض، هو الحالة الوحيدة التي بها يصبح المريض خاليًا من معاناة هذا المرض. وبالمثل عندما نتحدث عن معاناتنا، فإن ما نرغب في الوصول إليه هو تلك الحالة الخالية من المعاناة. عادة ما نجد النصوص تتحدث عن محال الملجأ الثلاثة، بوذا، الدارما، والسانغا. بوذا هو المعلم الذي أرشدنا على الطريق للتحرر من المعاناة، والدارما هي تعاليمه والتي بإتباعنا لها نُحرر أنفسنا بأنفسنا، والسانغا هم مجتمع المتدربين بشكل عام، وبعيدا عن التعريف التقني لهذه المصطلحات فإنه يُنظر إليهم كالمساعدين على الطريق. من بين الثلاثة، الدارما هي الملجأ الحقيقي، لكن كيف هذا؟ كما اسلفنا، الدارما هي التعاليم التي قدمها بوذا، تصنف الدارما إلى نص التعاليم ذاتها، والتحققات التي سنصل لها نتيجة تطبيق تلك التعاليم، من بين الأثنين، التحققات، اي حالة التحرر الكامل والنهائي من المعاناة، هي ملجأنا الوحيد والنهائي.” أرجن برندي

 

ناقلة الهنيانا

تشكل هذه الناقلة الأساس لكل من المهيانا وتانترا الماهيانا أي الفجرايانا، وهكذا فإن البوذية التبتية ترى أن الهنيانا تحدد الأفكار الأساسية في البوذية حول المعاناة والكارما واللاذات – أي عدم وجود ثابت للذات – وهذه تُوضح بشكل أكثر تفصيلا في ناقلتي المهيانا والفجرايانا. وهي كذلك تصف التأمل الأساسي في الفلسفة البوذية وهو تأمل تهدئة الذهن أو شاماتا shamatha وتأمل البصيرة فيباسانا Vipassanā. وهذا أيضا يتم توضيحه وتفصيله أكثر في الناقلتين الأخرتين. وهكذا فالهنيانا تمثل الأساس الذي ننطلق منه في رحلتنا عبر الناقلات وهي تجعل من الرحلة أمرا ممكنا.

وقد قدم بوذا تعاليم الهنيانا في متنزه دير بارك Deer Park  في مدينة بنارس في الهند بعد فترة قصيرة من وصوله للاستنارة لخمسة من رفقائه السابقين في التنسك والذين صاروا الآن من تلامذه الأوائل. وعلم الحقائق النبيلة الأربعة:        1) حقيقة وجود المعاناة  2) حقيقة أصل المعاناة وأسبابها  3) حقيقة امكانية انهاء المعاناة  4) حقيقة المسار الروحاني الذي يؤدي لانهاء المعاناة. وفي التقليد التبتي يشار اليها ب “الأفكار الأربعة التي تدير الذهن أو تذكره” وهي: التذكير 1) بكم هو ثمين ميلادنا كبشر وهذا أمر نأخذه مسلما في العادة  2) التذكير الثاني التغيير وعدم ثبات الأشياء 3) التذكير الثالث الكارما من حيث أن لكل فعل أثر ونتيجة تنشأ عنها المعاناة أو الهناء 4) التذكير بعيوب ومساوئ السمسارا.

تعتبر  الهنيانا المرحلة الاولى من التعاليم وهي تعتبر تأسيسية لناقلات الماهيانا وتانترا الماهيانا (اي الفاجرايانا). وهي طبعا تشترك جميعا في المعتقدات الأساسية لكن تختلف من حيث التفاصيل والتوضيحات والتدريبات المرافقة لها. ولكل منها امتدادها الجغرافي، مثلا الماهايانا انتشرت في جنوب وشرق وجنوب شرق آسيا، والفاجرايانا في التبت، والهنيانا في جنوب شرق اسيا وسريلانكا. وبالنسبة للتعاليم: مثلا في الهنيانا يتأمل المتدريب على “عدم نقاء الجسد والطعام” للتدرب على عدم التشبث والتعلق حتى يصل “للتحرر”: لكن في الفاجريانا يكون التدرب على عدم التشبث والتعلق من خلال “تحويل” السموم الذهنية والعاطفية حتى نصل بذلك للاستنارة. ولكن هذا يكون من خلال تدريبات مكثفة وعليا في التأمل. وناقلة التانترا في البوذية لا يمارسها المتدرب الا بعد التدرب في ناقلتي الهنيانا والماهيانا حيث يتقن تأملي الهدوء شماتا وتأمل البصيرة فيباسانا ويصل لدرجة عالية من الالتزام الأخلاقي والشفقة العالية تجاه نفسها او نفسه وجميع الكائنات. فالتانترا في البوذية ليست بالبساطة أو”السذاجة” التي يروج لها البعض من المبتدئين في نيو ايج وغيرهم.

ناقلة الماهيانا

 

ينتمي البوذيون التبتيون إلى تقليد الماهيانا والذي يطلق عليه أيضا “ناقلة الماهيانا العظمى أو الكبرى – تسمى ناقلة لأنها تنقل الذهن من حالة لأخرى. ومايزال هذا التقليد سائدا حتى الوقت الحاضر في في شمال وشرق آسيا. والمثال الأعلى في هذا التقليد أو المسار الروحاني هو البوديساتفا أي “كائن الاستنارة” الذي يمارس الشفقة والحكمة ويجتهد في الوصول للاستنارة من أجل تحقيق الرفاه لجميع الكائنات وإيصالهم جميعا للاستنارة دون استثناء. وبالنسبة للماهايانا فإن كل انسان أو كل كائن واعي سيصبح يوما مثل بوذا – كامل الاستنارة – وهناك من حققوا الاستنارة وهم موجودين عبر الزمان والمكان.

وحسب هذا التقليد فإن طريق الاستنارة طويل جدا ويحتاج ملايين الحيوات من الدراسة والتأمل والعمل من أجل رفاه الآخرين دون أنانية. وفي البداية يأخذ السالك في المسار الروحاني عهود البوديساتفا بأن ينال الاستنارة الكاملة من أجل رفاه جميع الكائنات. وبعد ذلك يسلك البوديساتفا في المراحل المختلفة في الطريق الروحاني والمستويات المختلفة. وفي آخر حياة لها أو له تماما مثل بوذا شكياموني يولد البوديساتفا في عالم لا تُعرف فيه الدارما وينال الاستنارة ويبدأ بتعليم الدارما، ويتمتع بخصائص وميزات عالية جدا تجعله بمرتبة سامية فوق جميع الكائنات.

 

ناقلة الفاجرايانا

في هذا المسار الروحاني وهو مسار تانترا الماهايانا، يمكن أن ينال المرء الاستنارة في حياة واحدة، وهذا المسار له تدريباته الخاصة، وعادة يتطلب مستويات عالية من الاستعداد الأخلاقي والدراسة حتى يتسبب السالك في هذا المسار ببأذى نحة نفسه أو غيره.

About the author

Dharmabustan

إ

Leave a Comment