الدّماغ والتَّأمّل

كيف  يُغيّر التأمل من حياتنا وأدمغتنا

Written by Dharmabustan

كيف يُغيّر التأمل من حياتنا وأدمغتنا

للكاتب والصحفي الأمريكي في مجال علوم الدماغ والعلم السلوكي دانيال غولمان Daniel Goleman وأستاذ علم النفس والطب النفسي الأمريكي ريتشارد ديفيدسون Richard Davidson  أيار 2018- من مقالات مجلة  Lion’s Roar

 

“How Meditation Changes Your Brain — and Your Life”

By Daniel Goleman and Richard Davidson

May 7, 2018|

 

 

ترجمة وتحرير  فريق دارما بستان

 

 

 

عندما قام علماء الأعصاب بإجراء اختبارات على أشخاص متمرسين في التأمل، اكتشفوا أمرا مفاجئا، وهو أن التأثير الذي يحدثه التأمل البوذي ليس قصير الأمد، بل قد يُغيّر من مظاهر أو صفات عميقة الجذور في الشخصية وأنماط الدماغ.

سيحدثنا كل من دانييل غولمان وريتشارد دايفدسون عن هذا الاكتشاف الثوري في معرفتنا حول عملية التأمل.

 

تم تجهيز المعلم الكبير والخبير في التأمل منغيور رينبوتشي باستخدام  256 سلكا رفيعا لقياس موجات دماغه بينما  كان يتأمل. صورة براين أولريش.

 

“في صباح إحدى الأيام الباردة من شهر أيلول عام 2002 وصل راهب من التبت إلى مطار ويسكونسن Wisconsin، ماديسون.وقد قدم من رحلة امتدت عبر مسافة ١١،٠٠٠ كم عن ديره الذي كان على قمة تلة على أطراف مدينة  كاثاماندو في نيبال. استغرقت مدة الرحلة ثماني عشرة ساعة على مدى ثلاثة أيام، وقطعت عشرة مناطق توقيت.

في اجتماع حول العقل والحياة عام 1995 في مدينة دار مسالا، والذي تناول موضوع العواطف  السلبيّة والهدّامة، جرى لقاء سريع بين ريتشارد ديفيدسون والراهب، لكنّه قد نسي كيف يبدو الراهب.مع ذلك، لم يكن صعبا عليه أن يُميِّزه من بين الحشود. فقد كان الرجل الوحيد حليق الرأس الذي يرتدي رداء قرمزياً ذهبي اللون في مطار مقاطعة داين الإقليمي. كان يدعى منغيور رينبوتشي وقد قطع كل هذه المسافة من أجل فحص ودراسة دماغه أثناء قيامه بالتأمل.

بعد ليلة من الراحة، أحضر ريتشارد منغيور إلى غرفة التخطيط الكهربائي للدماغ في مركز البحث في العقول الصحية الذي أسسه ريتشارد في جامعة ويسكونسن ماديسون حيث يتم قياس موجات الدماغ من خلال ما يشبه لوحة فنية سريالية مثل قبعة حمّام تخرج منها أسلاك أشبه بالمعكرونة. تحتوي هذه القبعة المصممة خصيصًا على ٢٥٦ سلكًا رفيعًا يرتبط كل منها بجهاز استشعار ملتصق بموقع محدد على فروة الرأس. وهناك أثر كبير لمدى الارتباط بين جهاز الاستشعار وفروة الرأس في تسجيل بيانات مفيدة وقابلة للاستخدام حول النشاط الكهربائي للدماغ وبين مجرد كون القطب الكهربائي مجرد هوائي لا يرصد سوى الضجيج.

 

بينما بدأ أحد التقنيين في المختبر بإعلام منغيور بلصق أجهزة الاستشعار على فروة رأسه، أكد بأن عملية إلصاق هذه الأجهزة في مكانها المحدد لن تستغرق أكثر من خمس عشرة دقيقة. لكن في حالة منغيور اختلف الأمر، فهو راهب حليق الرأس ولذلك فإن استمرارية تكشف جلدة الرأس  يزيد من سماكتها وقسوة جلدة الرأس أكثر من جلدة  الرأس المحمي بواسطة الشعر. أخذ الأمر وقتا أطول بكثير من العادة من أجل جعل اتصال القطب مع فروة الرأس بشكل كافٍ لإنتاج قراءات قابلة للفحص.

 

سرعان ما يفقد معظم الناس من الذين يأتون إلى المختبر صبرهم ، بالإضافة إلى الشعور بالانزعاج، بسبب هذا التأخير. لكن لم يظهر منغيور أي علامات استياء فهو لم يكن مضطرباً على الإطلاق، مما هدأ من روع فني المختبر – وكل من كان يشاهدهم-، فهو سيكون على ما يرام بغض النظر عما قد يحدث. وهذا كان أول مؤشر على تمتعه بالسكون، كان شعوراً واضحا وملموسا على مدى استعداده للاسترخاء أمام ما قد تجلبه الحياة من متاعب. وكان الانطباع الدائم الذي أحدثه منغيور هو الصبر الذي لا نهاية له، و اللطف وحسن المعاملة.

 

بعد مرور فترة طويلة وكأنها كانت دهرا من أجل ضمان دقة وضعية أجهزة الاستشعار تلك  على فروة الرأس، أصبحت التجربة وأخيراً جاهزة للبدء. إن التحليل الدقيق لشيء يصعب فحصه كالرأفة على سبيل المثال، يتطلب أسلوباً معينا دقيقا، لكي يتم اكتشاف ذلك النمط الذهني المحدد لنشاط الدماغ وسط عاصفة من الإشارات الكهربائية في الدماغ والمتعلقة بالأمور الأخرى الحادثة في الدماغ. كان يتطلب هذا الأسلوب من منغيور التناوب بين دقيقة واحدة من التأمل على حالة الرأفة والشفقة وثلاثين ثانية من فترة الراحة المحايدة. وحتى يتم التأكد من مصداقية النتائج من حيث كونها معتمدة وليست مجرد نتائج عشوائية، كان عليه أن يفعل ذلك أربع مرات على التوالي وبسرعة.

 

كانت لدى ريتشارد شكوك كبيرة منذ بداية التجربة عما إذا كان المشروع سينجح أم لا. فأولئك الموجودون في فريق المختبر الذين يمارسون التأمل بشكل متواصل، ومن بينهم ريتشارد، كانوا يعلمون بأن مجرد محاولة تهدئة الذهن يتطلب ذلك منهم وقتا لا بأس به، وذلك غالباً ما يأخذ أكثر من مجرد بضع دقائق. كان يصعب عليهم التصور أنه بإمكان شخص (حتى ولو كان متمكنا متمرسا مثل منغيور) دخول مثل هذه الحالات على الفور وعدم حاجته للكثير من الوقت للوصول إلى حالة من السلام والهدوء الداخلي.

 

لحسن حظ ريتشارد تطوع العلامة البوذي جون دن- وهو شخص نادر يجمع ما بين الاهتمامات العلمية والخبرات في العلوم الإنسانية والطلاقة في لغة التبت – فقد سلّم جون تعليمات محددة بالتوقيت إلى منغيور تشير له ببدء تأمل الرأفة compassion meditation. ثم بعد ستين ثانية أعطاه إشارة أخرى لأخذ نصف دقيقة لحالة الاسترخاء الذهني وهكذا لمدة ثلاث دورات أخرى.

بمجرد أن منغيور بدأ جلسة التأمل حدث تدفق مفاجئ للنشاط الكهربائي على شاشات الكمبيوتر التي تقوم بعرض الإشارات من دماغه. جميع من في المختبر افترض بأن هذا يعني أنه قد تحرك من مكانه، فهذه الحركات العادية التي يتم رصدها في التجارب العلمية تعتبر مشكلة شائعة في البحوث المتعلقة بتخطيط كهربائية الدماغ، والتي تسجل قراءات أنماط أمواج من النشاط الكهربائي في الجزء العلوي من الدماغ. فأي حركة لجهاز الاستقبال مهما كانت حركة بسيطة مثل تحرك الساق أو إمالة الرأس قد تتضخم في تلك القراءات بشكل كبير يشبه موجة دماغية، لكن يجب أن يتم التخلص منها من أجل إجراء تحليل دقيق وواضح.

 

ومن الغريب بأن هذا التدفق بدا وكأنه استمر طيلة فترة جلسة التأمل، لكن حسب رؤية الحاضرين لم يحرك منغيور ساكناً. لكن التدفق للإشارات الكهربائية تقلص ومع ذلك فإنه لم يختلف تماما عندما أخذ قسطاً من الراحة الذهنية، دون أن يقوم وللمرة الثانية بأية حركة.

 

راقب فريق المختبر الأربعة في غرفة التحكم، وهم بذهول، في حين تم الإعلان عن فترة التأمل القادمة. بينما كان يترجم جون دن التعليمات التالية للتأمل بلغة التبت، تمعن الفريق في الشاشات في صمت، ينظرون بتمعن من شاشة إلى أخرى من تلك التي تراقب الأمواج الدماغية إلى الفيديو المركّزعلى منغيور.

 

حدث التدفق الكبير للإشارات الكهربائية. وقد كان منغيور يجلس بهدوء تام مرة أخرى ملتزما السكون أثناء انتقاله من حالة الاسترخاء إلى حالة التأمل ولم يظهر أنه تحرك بأي شكل. إلا أن الشاشة لا تزال تظهر نفس الاندفاع الكبير للموجات الكهربائية الدماغية. في كل مرة كان يتكرر فيها هذا النمط وذلك عندما كان يُطلب منه ممارسة تأمل الرأفة. راح ينظر الفريق لبعضهم البعض باندهاش وصمت تام وكانوا على وشك القفز من مقاعدهم من شدة تحمسهم لما كانوا يشاهدونه.

 

أيقن جميع أعضاء الفريق في تلك اللحظة بأنهم يشاهدون شيئاً في غاية الأهمية، شيء لم يسبق لهم أن شاهدوا مثله في المختبر.لم يكن بإمكان أي أحد في تلك اللحظة التنبؤ بما سيؤدي إليه ذلك، لكن جميع من كان موجوداً شعر بأن هذا كان نقطة انعطاف حاسمة في تاريخ علم الأعصاب.

خلق ذيوع هذا الخبر ضجة علمية. فمنذ أن تمت كتابة هذا المقال، تم تداول هذه النتائج لهذا المقال الصحفي لأكثر من 1,100 مرة في الأعمال العلمية العالمية. ونتيجة لذلك بدأ العلم يصغي. جاءت اللحظة الرائعة عندما مرّ منغيور بمجموعة أخرى من الاختبارات، هذه المرة كانت بواسطة جهازالرنين المغناطيسي الوظيفي Functional magnetic resonance imaging الذي يقدم صور فيديو ثلاثية الأبعاد لنشاط الدماغ. يوفر هذا الجهاز للعِلم عدسة مكملة لجهاز التخطيط الدماغي الذي يتتبع النشاط الكهربائي للدماغ. تعتبر قراءات التخطيط الدماغي أكثر دقة زمنية أما الرنين المغناطيسي الوظيفي  فهو يُوفّر دقة من حيث المواقع العصبية.

 

لا يكشف جهاز التخطيط الدماغي  ما يحدث في عمق الدماغ، فكيف له أن  يُظهِر مكان حدوث التغييرات في الدماغ. فهذه الدقة المكانية تأتي بواسطة استخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي الذي  يُعيِّن المناطق التي يحدث فيها النشاط الدماغي بدقة عالية. ومن ناحية أخرى، على الرغم من كون الرنين المغناطيسي الوظيفي دقيقا من ناحية المكان إلا أنه يتعقب توقيت التغييرات خلال ثانية واحدة أو ثانيتين، أبطأ بكثير من جهاز التخطيط الدماغي.

 

بينما كان يتم فحص دماغ منغيور من قبل جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي، تلقى منغيور إشارة من أجل ممارسة التأمل. شعر كل من ريتشارد والآخرين من المشاهدين مرة أخرى في غرفة التحكم وكأن عقولهم توقفت. والسبب وراء ذلك أن :  النشاط الدماغي لمنغيور والذي يتعلق بالإحساس بالآخرين (الذي غالباً ما يشتد بعض الشيء خلال هذا التمرين الذهني) ارتفع إلى مستوى نشاط 700 إلى 800 مرة أكبر مما كان عليه خلال فترة الراحة قبل ذلك بقليل.

 

البيانات المسجلة خلال اختبار التخطيط الكهربائي لدماغ  الراهب البوذي ماثيو ريكارد أثناء تأمله. تم اختبار المتمرسين في التأمل الذين أنجزوا ما بين 12،000 و 62،000 ساعة من التأمل. الصورة من جيف ميلر ، جامعة ويسكونسن-ماديسون.

 

مثل هذه الحالة للزيادة المفرطة تُحدث ارتباكا في المجال العلمي.إذ أن الكثافة التي تنشط بها تلك الأحداث في دماغ منغيور تتجاوز أي كثافة سابقة رأيناها في دراسات الأشخاص “العاديين”. فأقرب الحالات التي تتشابه مع حالة منغيور بنتائج مماثلة هي نوبات الصرع، لكن هذه الحالات لا تكاد تتجاوز بضع ثوانٍ قصيرة وليس دقيقة كاملة. عدا عن ذلك، تسيطر نوبات الصرع على الدماغ، وهذا على عكس وضع  منغيور الذي كان يسيطر على نشاط دماغه.

 

بينما أسفرت زيارة مينغيور إلى ماديسون عن نتائج مذهلة ، فإنه لم يكن وحيدًا. كان أداؤه المتعلق في علم الأعصاب الرائع جزءًا من قصة أكبر،  وهو برنامج أبحاث فكري فريد من نوعه قام بجمع البيانات من خبراء ومتمرسي التأمل على المستوى العالمي.

 

تم اختيار واحد وعشرين فرداً من اليوغيين البوذيين على مر السنين في مختبر ريتشارد من أجل اختبارهم بشكل رسمي. كانوا قد قطعوا شوطا كبيرا في هذا الفن من الاستبطان والتأمل الداخلي، بعد أن وصل عدد ساعات التأمل للفرد الواحد منهم إلى 12,000 ساعة، بينما كان ما حققه منغيور هو 62,000 ساعة من  التأمل.

  لم يسبق للعلم من قبل أن عرف مثل هذا الإنجاز الباهر من الرياضات الذهنية لمجموعة من الأشخاص

 

أكمل كل من هؤلاء اليوغيين معتزلا واحدًا على الأقل لمدة ثلاث سنوات، أتمّ كلٌ منهم ممارسة التأمل لما لا يقل عن ثمانِ ساعات خلال اليوم الواحد لمدة تزيد عن ثلاث سنوات متواصلة – بل في الواقع طالت المدة إلى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، أي ما يعادل 9500 ساعة للمعتزل الواحد.

 

وقد خضع الجميع للبروتوكول العلمي ذاته، أي تلك الدورات نفسها الأربع التي تستغرق دقيقة واحدة والتي تتكون من ثلاثة أنواع من التأمل – والتي أسفرت عن عدد هائل من المقاييس. وقضى فريق المختبر عدة أشهر في تحليل التغييرات المثيرة التي شهدوها خلال تلك الدقائق القصيرة مما حصل مع هؤلاء المتمرسين في التأمل.

 

تماماً مثل منغيور، دخل كلٌ منهم في حالة تأملية محددة بإرادته، وقد  خُصّص لكل واحد منهم شارة عصبية مميزة له عن غيره. وكما كان الحال مع منغيور أظهر هؤلاء المتمرسون مهارة ذهنية ملحوظة، مع سهولة مدهشة في القدرة على التحكم السريع في هذه الحالات من مشاعرالرأفة، وحالة عظيمة من الاتزان الممزوج بالحكمة والحرية والانفتاح الكامل بغض النظر عما ينشأ في الذهن، وكذلك حالة من التركيز القوي الذي لا يمكن تشتيته بأي شكل.

 

وقد تمكن كلٌ منهم في الدخول والخروج من مستويات الوعي الذي يصعب تحقيقها في غضون أجزاء من الثواني. كما كانت هذه التحولات في الوعي مصحوبة بتحولات واضحة في نشاط الدماغ القابل للقياس. لم يسبق للعلم من قبل أن عرف مثل هذا الإنجاز الباهر لمجموعة من الرياضات الذهنية.

 

تطلب إعداد البيانات الأولية عن اليوغيين لغربلة البرامج الإحصائية المتطورة عملاً شاقا. فقد تطلب مجرد الحصول على مقدار الاختلافات بين حالة استراحة اليوغيين ونشاط دماغهم أثناء التأمل مهمة حسابية ضخمة. لذلك استغرق ريتشارد وزميله أنطوان لوتز Antoine Lutz من مركز ليون لعلوم الأعصاب Lyon Neuroscience Research Center  فترة من الوقت للعثور على نمط مخفي في الكم الهائل من البيانات، وهي أدلة تجريبية ضاعت وسط الإثارة حول براعة اليوغيين في تغيير نشاط الدماغ خلال الحالات التأملية. في الواقع، ظهر النموذج المفقود فقط كفكرة ثانوية خلال لحظات أقل اضطراباً، وذلك بعد أشهر من قيام فريق التحليل بالبحث في البيانات مرة أخرى.

 

ركز الفريق الإحصائي طوال الوقت على تأثيرات الحالة المؤقتة من خلال حساب الفرق بين نشاط الدماغ الأساسي لليوغي وبين ذلك الذي نتج من خلال فترات التأمل التي تستغرق دقيقة واحدة. كان يقوم ريتشارد بمراجعة الأرقام مع أنطوان وأراد إجراء فحص روتيني للتأكد من أن قراءات التخطيط الكهربائي  للنشاط الأساسي الأولي للدماغ (تلك التي اتخذت في وقت الاستراحة ، قبل أن تبدأ التجربة) كانت هي نفسها في مجموعة التحكم من المتطوعين الذين حاولوا القيام بتأملات متطابقة لما يمارسه اليوغيون. طلب رؤية هذه البيانات الأساسية وحدها لا غير.

 

تم اختبار واحد وعشرين يوغيا بوذيا في مختبر ديفيدسون. هنا يشرح كيف يتم عرض صور الدماغ للدالاي لاما الذي لطالما نادى من أجل  الدراسة العلمية للتأمل. الصورة اتخذت من قبل جيف ميلر، جامعة ويسكونسن-ماديسون.

 

عندما جلس كل من ريتشارد وأنطوان لمراجعة ما ابتلعت أجهزة الكمبيوتر من بيانات، نظر كل منهما إلى الأرقام ثم نظرا إلى بعضهما البعض. عرفوا بالضبط ما كانوا يرونه وتبادلوا كلمة واحدة فقط: “مدهش!” كان لدى جميع اليوغيين درجة عالية من ترددات غاما (gamma oscillations) ليس فقط أثناء فترات ممارسة التأمل على الحضور والامتداد الواسع للوعي والرأفة، ولكن أيضًا أثناء أول قياس قبل ممارسة أي تأمل. كانت هذه البيانات الصاعقة تعرف في ترددات التخطيط الكهربائي الدماغي ب “السعة العالية” جاما، الأقوى والأكثر كثافة. استمرت هذه الموجات لمدة دقيقة كاملة للقياس الأساسي قبل بدء ممارسة التأمل.

 

كانت هذه هي موجة التخطيط الدماغي التي أظهرها منغيور في ذلك الارتفاع المذهل في النشاط الدماغي خلال ممارسة تأمل كل من الحضور المفتوح والرأفة. ورأى فريق ريتشارد الآن أن هذا النمط غير الاعتيادي لدماغ  يميز النشاط العصبي لجميع اليوغيين خلال حياتهم اليومية الاعتيادية. بعبارة أخرى، كل من ريتشارد وأنطوان قد عثرا على ضالتهم: نظام عصبي neural signature يظهر تحولا مستمرا.

 

هناك أربعة أنواع رئيسية من موجات التخطيط الدماغي، مصنفة حسب ترددها (تقنياً، يتم قياسها من خلال وحدة هرتز. دلتا Delta، وهي أبطأ الموجات ، تتردد بين دورة وأربع دورات في الثانية، وتحدث بشكل رئيسي أثناء النوم العميق ؛ تليها ثيتا  theta في العمق، يمكن أن تعني الخمول. يدخل المرء في الألفا alpha عندما يقوم بالقليل من التفكير ويشير ذلك إلى حالة الاسترخاء ؛ وبيتا beta، تُعد الأسرع وهي تصاحب التفكير أو اليقظة أو التركيز.

 

أما غاما Gamma، فهي أسرع موجة دماغية، تحدث خلال لحظات عندما تنطلق مناطق الدماغ المختلفة في انسجام مثل لحظات من البصيرة وكأنه تم حل للغز ذهني من خلال تجمع عناصر ذهنية مختلفة معا. ومثال ذلك ما يحدث في أحجيات الكلمات.

 

ففي اللحظة التي يأتي فيها ذهنك بالإجابة، فإن إشارة دماغك تنتج للحظات موجات غاما المميزة. كما أنه تتولد عندك موجة غاما قصيرة الأجل، وذلك عندما  تتخيل على سبيل المثال حبة خوخ ناضجة حيث يجمع حينئذ دماغك الذكريات المخزّنة في مناطق مختلفة من القشرة الدماغية المتعلقة بالحواس وغيرها لدمج الرؤية والرائحة والطعم والشعور والصوت فجأة في تجربة واحدة.  في هذه اللحظة السريعة تتردد موجات غاما من كل من هذه المناطق القشرية في تزامن تام. غالبًا ما تدوم موجات غاما من خلال بصيرة ابداعية بما لا تزيد عن خُمس الثانية وليس دقيقة كاملة كما ظهر عند اليوغيين.

 

أظهر المتمرسون براعة ذهنية ملحوظة ، يدخلون ويخرجون من مستويات من الوعي من الصعب تحقيقها في غضون أقل من ثوانٍ ، مصحوبة بتغيرات متساوية واضحة في نشاط الدماغ القابل للقياس. لم يسبق للعلم أن رأى مثل هذه  الإنجازات في الرياضات الذهنية لمجموعة من الأشخاص من قبل. تصوير جيف ميلر، جامعة ويسكونسن-ماديسون.

 

قد يُظهر تخطيط الرسم الكهربائي الدماغي لأي منا موجات غاما المميزة للحظات قصيرة من وقت لآخر. عادة، خلال حالة اليقظة، نعرض خليطًا من موجات دماغية مختلفة تتلاشى وتتضاءل على ترددات مختلفة. تعكس ترددات الدماغ هذه نشاطًا عقليًا معقدًا، مثل  معالجة المعلومات، وتتوافق تردداتها المختلفة مع وظائف مختلفة بشكل عام. يختلف موقع هذه الترددات تبعا لمناطق الدماغ. فيمكننا إظهار ترددات ألفا في موقع قشري واحد وترددات غاما في موقع آخر.

 

أما بالنسبة لليوغيين فترددات  غاما تظهركسمة بارزة في نشاط الدماغ أكثر من غيرها. لا تعتبر أمواج غاما التي عندنا بنفس القوة التي شاهدها فريق ريتشي في اليوغيين أمثال  منغيور. كان التباين بين اليوغيين وبين مجموعة التحكم من حيث كثافة غاما هائلا: كان معدل ترددات غاما لدى اليوغيين بسعة أكبر بمقدار 25 مرة خلال نقطة البداية مقارنةً بمجموعة التحكم.

 

يمكننا فقط أن نقدر  ما هي حالة الوعي التي يعكسها هذا : يبدو أن اليوغيين مثل منغيور يعيشون حالة مستمرة من الوعي الغني المفتوح خلال حياتهم اليومية، وليس فقط عند التأمل.

فقد وصفها اليوغيون أنفسهم على أنها رحابة واتساع في خبرتهم، كما لو أن كل حواسهم كانت مفتوحة على مصراعيها إلى البانوراما الغنية الكاملة للتجربة.

 

أو كما وصف ذلك   نص تبتي يعود للقرن الرابع عشر،

 

“… حالة من الوعي المجرد والشفاف؛

 

حالة من السهولة والحيوية ، حالة من الحكمة المسترخية بلا  شيء تستند إليه ،

 

خالية من أية ثوابت وفي وضوح الشمس ، حالة من دون أدنى

 

نقطة مرجعية؛

 

وضوح فسيح وخالٍ، حالة من الوعي مفتوحة وغير محدودة؛

 

الحواس دون قيود … “

 

كانت حالة الدماغ هذه بترددات غاما التي اكتشفها ريتشارد وأنطوان أكثر من  عادية، وكانت غير مسبوقة – تعد نجاحا باهرا! فلم يسبق لأي مختبر دماغي أن شاهد ترددات لغاما استمرت أكثر من  أجزاء من الثواني، ولكن هذه الترددات استمرت لبضع دقائق وهي قوية جدا، وهي متزامنة عبر مناطق واسعة من الدماغ.

 

كما أن من المثير للدهشة أن هذا النمط الثابت والمتواصل من ترددات غاما في الدماغ تستمر حتى عندما يكون هؤلاء  المتمرسون في التأمل نياما . كما وجد فريق ريتشارد في أبحاث أخرى مع ممارسين لتأمل البصيرة vipassana على المدى الطويل والذي هو بمعدل 10,000 ساعة من التأمل. ونكرر للمرة الثانية أن ترددات غاما المستمرة أثناء النوم العميق هي  شيء لم يسبق وأن حدث من قبل، ويبدو أنه يعكس جودة متبقية من الوعي تستمر ليل نهار.

 

يتناقض نمط ترددات غاما عند اليوغيين مع النمط الاعتيادي لكيفية حدوث هذه الموجات ، لفترة وجيزة فقط، وفي موقع عصبي معزول. كان لدى المتأملين الماهرين مستوى عال جدا  من موجات غاما تتذبذب بتزامن عبر الدماغ، بغض النظر عن أي فعل ذهني معين. وهذا أمر لم يسمع به.

 

كان ريتشارد وأنطوان يشاهدان للمرة الأولى  صدا عصبيّا للتحولات الدائمة التي نقشتها سنوات من ممارسة التأمل في الدماغ. وهنا كان الكنز مخفيّا في البيانات طوال الوقت: خاصية من التغيير الحقيقي.”

 

Altered Traits: What Science Reveals About How Meditation Changes Your Mind, Brain, and Body by Daniel Goleman and Richard Davidson, published by Avery, an imprint of Penguin Publishing Group, a division of Penguin Random House LLC.

About the author

Dharmabustan

إ

Leave a Comment