المقالات المُترجمة

معاناة الانشغال – للمعلمة شارلوتة روتردام

Written by Dharmabustan

معاناة الانشغال

المصدر:

The Suffering of Busyness

ترجمة وتحرير فريق دارما بستان

 

ا

المؤلفة: شارلوتة روتردام Löpon Charlotte Rotterdam معلمة أمريكية في مجال الفلسفة البوذية والتأمل، وهي تعلم منذ 15 سنة، كانت مديرة لبعض البرامج في جامعة ناروبا، هي مدربة ومستشارة في مهارات النمو الإبداعي والوعي الذاتي.

 

الجزء الأول: الإلتهاء والخوف من الفراغ – دعوة لمجرد التوقف

سمعت مؤخرًا عن دراسة توصلت إلى أن حالة “الانشغال” أصبحت رمزا للحالة الجديدة التي تميز مجتمعاتنا. لقد نشأت مع مناظر للأغنياء وأصحاب النفوذ وهم يسترخون على الشواطئ الممتدة ذات الرمال البيضاء، مشروبهم في أيديهم ولا اكتراث لديهم حول العالم. لكن الآن  يبدو وكأننا نثبت مكانتنا الاجتماعية من خلال التباهي بعدد الارتباطات والمسؤوليات التي نتحملها في أي يوم. بينت الدراسة أن هذا صحيح بالنسبة إلى الطبقة العاملة كما هو الحال بالنسبة للطبقات المتوسطة والعليا. يجب أن أعترف: في كثير من الأحيان أجد نفسي أرثي حالي مع أحد الأصدقاء حول ما في جعبتي من قوائم المهام الطويلة، واجباتي العديدة والمختلفة، واحتياجات رعاية أطفالي ومنزلي المتسخ، وصندوق البريد المكدس  دائما… إنه لأمر سهل – ويبدو أنه دائمًا ما يكون صحيحا – أن الإجابة على سؤال “كيف حالك؟”: مشغول، مشغول، مشغول. كما الحال عندنا جميعاً.

في التعاليم البوذية يُعبر عن المعاناة البشرية بوجه خاص في أنها “الانشغال” أو الإلتهاء. عندما استمعت إلى تقرير للإذاعة الأمريكية العامة NPR، تملكني شعور وكأن هذا درسا في الدارما [أي التعاليم البوذية]، وكأنه يشير إلى شبكة من معاناتي ومعاناة  رفقائي البشر والتي نجيد ونبدع للغاية التغلغل فيها. فما هو هذا الانشغال؟ ولماذا نشغل وقتنا بمزيد من المهام التي نقوم بها تمامًا كما نملأ مساحاتنا المفتوحة بمزيد من الأبنية؟

هذا هو الأمر بعينه، بالطبع. نحن نملأ المساحات – مساحة الزمان والمكان. أشار المعلم التبتي العظيم تشوغيام ترونغبا رينبوتشي Chögyam Trungpa Rinpoche إلى أن أحد المخاوف الإنسانية الأساسية هو “الخوف من الفراغ”: “نحن خائفون من حقيقة عدم وجود نقطة مرجعية the truth of non-reference point. النشاط يعطينا نقطة مرجعية؛ لدينا شيء نفعله في مكان ما. أنشطتنا هي الشنكل أو الصنارة التي نعلق عليها معطف الهوية الشخصية. وفي الأماكن الفارغة في جدولنا – أو عندما نجد أنفسنا وحدنا على طاولة في المطعم للحظة وجيزة وغير مريحة، نقوم بتصفح الفيس بوك، أو كتابة نص رسالة، أو قراءة مقال إخباري آخر، أو النشر على الانستغرام. من الصعب تحديد الخط الفاصل بين النشاط “الهادف” وبين الإلتهاء. عندما أقرأ الأخبار، هل أبلغ نفسي عن وضع العالم، أو أصرف انتباهي عن السؤال الذي يلوح في الأفق وهو “ما الذي  أفعله بحياتي؟” عندما أقوم بغسل الأطباق، هل أقوم بتنظيف المطبخ؟ أم أنني أتجنب الاضطرار إلى التحدث إلى زوجي؟ بغض النظر عما أفعله، فأنا أبقى مشغولة. أفعل أشياء، إذن أنا موجودة. أنا مشغولة، إذن أنا موجودة. طالما واصلنا التحرك، فلن نواجه المسافة والفراغ بين جميع أنشطتنا ولهونا وتشتتنا.

إذن ما الذي نصرف عنه أنفسنا وبحماس كبير؟ قد يحول نشاطنا بيننا وبين النظر إلى بعض الحقائق الأساسية لوجودنا – صفة انعدام الثبات والتغيير المستمر في كل ظواهر الوجود وعدم اليقين. مَن أنا بصرف النظر عن عملي؟ ماذا لو لم يكن هناك ثبات، لا توجد نقطة مرجعية ثابتة يمكنني الاعتماد عليها دائمًا؟ ماذا لو لم يكن هناك حقا أرضية أو أساس؟ كل الأشياء تمضي، وعندما نتوقف للحظة، فإننا نرى هذا بشكل مباشر للغاية. تهب رياح ظهيرة هذا الصيف الحار عبرالنوافذ المفتوحة، ثم تهدأ. الطيور تغرد لأصدقائها، ثم تحلق بعيدا. حتى الأشياء التي أشعر بالقلق حولها اليوم قد لا تشكل مشكلة كبيرة في المستقبل القريب . كل الأشياء تمضي حقا، ليس لدي أي فكرة إلى أين تسير كل الأمور.

هذه الإدراكات ليست سبباً للاكتئاب، وفقًا لما ذكره بوذا، فهي مجرد تذكير بهشاشة حياتنا وأنها نفيسة وغالية أيضا. في حالة عدم التيقن هذه نصبح “نقطة الضعف” لقلوبنا، كما وصفها ترونغبا Trungpa، نصبح مكشوفين.  والاسترخاء بهدوء في هذا الشكل الضعيف وغير المعروف فينا وقبوله يعتبر شجاعة … ” – أن نكون على استعداد لنعيش تجربة مباشرة في الوقت الحاضر، أيا كان ما يحمل في طياته، منفتحين على كل ما ينشأ. إنها أيضًا فرصة لتذوق الرحابة الواسعة والمترابطة التي هي حقيقة الوجود، الأرض التي لا أرض أو أساس لها والتي لا تحتوي على نقاط مرجعية أو مقابض أو علامات. تسمي البوذية هذا براجنا باراميتا Prajna Paramita، أي  الحكمة الكاملة. 

إن الدخول في معتزل هو وسيلة رائعة للقاء ومواجهة الخوف الأساسي من الفراغ أو الفضاء الممتد. أتذكر واحدًا من المعتزلات في مقصورة تارا ماندالا Tara Mandala في لومينوس بيك Luminous Peak، وهي مساحة تبلغ ثمانية أمتار وثمانية أقدام مع منظر طائر على المرج أدناه ومناظر شاسعة لجبال لا بلاتا La Plata Mountains على بعد 80 ميلاً. ابتدأت إحدى قصائدي المكتوبة بعد فترة وجيزة من بدء دخولي في المعتزل بهذا الإدراك في هذه الأبيات:

 

اليوم

أرى أنني أخاف من الفراغ

ارتعب من فقدان الخيط

ومما يأتي بعد ذلك

 

في المعتزل كثيراً ما أسأل نفسي لماذا اعتقدت أنها فكرة جيدة أن أفصل نفسي عن أطفالي وزوجي وكل الأشياء الممتعة التي يمكنني القيام بها بدلاً من الجلوس بمفردي مع نفسي. إنها تثير الوِحدة في بعض الأحيان. لا مكان للذهاب إليه. لا أحد يدعوني لهذا أو ذاك. ولكن بمرور الوقت بدأت عينايالنظر  بطريقة جديدة، أذناي تسمعان بطريقة جديدة. مع هديل  حمامة المساء. مع حلول الليل، أشاهد اليعسوب تعلق أرجلها الأمامية إلى فرع شجرة بونديروسا وتتعلق مثل المسيح بأجنحتها حتى الفجر المبكر. لا مزيدا من الوحدة الآن ، فأنا جزء من العالم من حولي أكثر من أي وقت مضى. عند الاتصال بشبكة الكون المطلقة، أشعر بسلاسة اتصالي بكل الأشياء.

لكن لا يتعين علينا الدخول في معتزل لإيقاف انشغالنا. كنت أردد على مانترا mantra صغيرة  لنفسي: توقفي عن غسل الأطباق، أوقفي رسائل البريد الإلكتروني، أوقفي التخطيط والقلق، أوقفي تيار الذهن الذي لا يكف عن إصدار أحكام إلى الأبد. هل يمكنني أن أستريح – للحظة – الآن ، تمامًا كما هي الأمور، دون الحاجة إلى تغييرها أو تكييفها أو تغييرها؟ وهذا يعني في بعض الأحيان أن أغلق صنبور الحنفية وأغلق الكمبيوتر وأغلق هاتفي. في بعض الأحيان، هذا يعني مجرد قضاء لحظة قصيرة في استرخاء، مما يجعل وعيي يتسع ويستريح في كل  تجربتي. أشعر بجسدي – صوت أمعائي، برودة رياح المساء على بشرة جلدي. أسمع زخات المطر على عتبة النافذة وطنين طفيف في أذني. ألاحظ الفجوة بين أفكاري. هنا مساحة لكنها ليست مخيفة على الإطلاق. إنها مفتوحة ولطيفة وسخية بلا حدود، وحاضرة دائمًا، في انتظار عودتي لها مثل الأم بأذرع مفتوحة.

 

About the author

Dharmabustan

إ

Leave a Comment