بوذية التبت - الجزء الثاني
هذه السلسة هي ملخص من بعض الأجزاء حول تاريخ البوذية في التبت – من كتاب Indestructible Truth للدكتور Reginald Ray
(أنصح القارئ العزيز بالاطلاع على الجزء الأول قبل قراءة الجزء الثاني)
من كان في التبت قبل البوذية؟
- يشار للتبت ب “بلد الثلج” (the Land of Snow).
- في التبت كان هناك أشكال من الشامانية غير البوذية non-Buddhist shamanic forms يطلق عليها Bön. وهي تشترك في كثير من التعاليم مع البوذية (وسنرى بعد قليل كيف حدث التلاقي فيما بينهما).
- رحلة البوذية من الهند إلى التبت
- نقلت البوذية للتبت عبر موجتين تعرفان في التبت على أنهما: الانتشار أو النقل الأول للدارما والذي حدث بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين (Nyingma)، والانتشار أو النقل الثاني (Sarma) والذي حدث بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين.
حكم التبت ثلاثة ملوك في الفترة ما بين القرن السابع والتاسع الميلاديين:
Songtsen Gampo 609 – 649 سونغسن غامبو
Trisong Detsen 742-797 تريسونغ ديسن
Ralpachan 8016 – 836 رالباكان
“كما نفهم من ثقافة التبت أن دور الملك الأساسي هو أن يجمع بين السماء والأرض. أن يستمد الحقائق الروحانية ويجعلها واقعا في العلم المادي. أن يحكم المجتع البشري بشكل يعكس “احترام الأشياء كما هي”.” ريجي ري
من أعظم ما قام به الملك تريسونغ ديسِن هو بناء دير ساميي Samye Monastery وأكل تلك المهمة لراهب الماهايانا الهندي المعروف شانتاراكشيتا Shantarakshita . لبى الراهب دعوة الملك وجاء بحاشية وجمع من المساعدين ومجموعة من النصوص محملة بآمال كبيرة في إعادة انشاء النموذج الهندي على تراب التبت. وما ان بُدء ببناء الدير ونشر الدراما، حدثت كوارث طبيعية كبيرة، وكما ذكرت أحد النصوص ” ما كان يُبنى في يوم، يُصبح مهدما في اليوم الذي يليه”. وكان من الواضح أن الراهب حاول فرض النموذج الهندي على السياق التبتي دون التواصل وانشاء علاقة مع القوى والكائنات غير المرئية هناك. فهذا الراهب راهب تقليدي ومع أنه ضليع في النصوص التقليدية للماهايانا التقليدية للبوذية الهندية ومثال يُحتذى به في الالتزام بمبادئ الفينايا للرهبان، لكنه عاش حياته ضمن الأمن والحماية النسبية التي أمنتها له حياته في ديره في الهند فلايتمتع بالمهارات الكافية في التعامل مع الطاقات العنيفة والجامحة للتبت.
ما كان مطلوبا هو شخص يعرف كيف يرى الكائنات والطاقات والقوى غير المرئية للأرض والسماء والماء والصخور والجبال والريح والعواصف ومملكة الحيوان وغيرها من الكائنات غير البشرية. شخص يعرف جوهرها وكنهها ويجيد التواصل معها ليجلبها لمجال الدارما وخدمتها. كان الراهب مدركا لذلك فقام بنصح الملك بأن يدعو السِدا الهندي بادماسامبافا the India Sidha Padmasambhava والذي يطلق عليه أيضا غورو رينبوتشي Guru Rinpoche والذي جاء من أرض أوديانا Uddiyana شمال غرب الهند أو ما يعرف حديثا بوادي سوات في دولة أفغانستان. ورغم ما يتمتع به الراهب شانتاراكشيتا من علم تقليدي والتزام إلا أن بادماسامبافا قد حقق مراتب روحانية عالية وهو مدرك للحقيقة Realized فبإمكانه أن يدخل أيا من العوالم الستة بإرادته ويتواصل مع سكانها بما في ذلك الكائنات غير المرئية التي تعيق زرع بذزر الدارما في أرض التبت وانشاء دير ساميي. وبادماسامبافا متحرر من القيود التقليدية على العكس من حياة الرهبنة فهو ليس خاضع لمؤسسة ما أو مقيد بأي شكل من الفكر أو الممارسات والتدريبيات الروحانية والدينية المربوطة بموروث تقليدي، وهو ليس خاضع لعطايا الممولين والمتبرعين وأجنداتهم. البوذية هي مسار من يسعى للاستنارة لكن بادماسمبافا تجاوز تلك التخوم. وبالفعل يقوم بادماسمبافا بما أوكل اليه من مهام ويتم بناء الدير.
ومن الأمور العظيمة الأخرى التي حدثت في عهد الملك ديسن هو حركة الترجمة الهائلة التي بدأها من خلال اختيار الشباب التبتيين ممن يتمتع بذكاء عال وفطنة وملكات ومواهب عالية لتدريبهم على فن الترجمة، ودعوة العشرات من العلماء والمترجمين. ومن هؤلاء العلماء من كان ملما بالسلال الثلاثة Tripitaka (السلة الأولى سوتا أو سوترا بيتاكا Sutta Piṭaka وهي تضم الدامابادا وهي الالتزام الأخلاقي في العموم وهي للرهبان وغير الرهبان والسلة الثانية Vinaya Pitaka وهي مختصة بتعاليم الالتزام الرهباني، والسلة الثالثة أبيدارما Abhidhamma Piṭaka وهي التعاليم المتقدمة وتمثل القاعدة الفلسفية لتعاليم بوذا في المنطق والمعرفة.) بالاضافة للمعلمين الكبار في التانترا من أمثال Vimalamitra وShantigharbha الذين طلب منهم نقل وتقديم تعاليم تانترا الماهايانا (الفاجرايانا). وكان هناك نوعان من المتدربين الذين تم تقديم الدعم لهم: الرهبان المقيمين في الدير واليوغيين المقيمين في معتزلاتهم في الكهوف حول الدير.
من الأمور الهامة في عهد هذا الملك ما يعرف بمناظرات دير ساميي Samye Debates : المناظرات بين العلماء الهنود ونظرائهم من الصينيين. كان يقود الجانب الهندي الراهب التقليدي كمالاشيلا تلميذ شانتاراكشيتا بينما كان يترأس الجانب الصيني الراهب هواشانغ Hua-shang. بينما اتخذ الهنود في هذه المناظرات التعاليم التقليدية للماهايانا من حيث الانتقال التدريجي في المسار الروحاني: أي أن اتباع مسار البوديساتفا ودراسة النصوص التقليدية زالتزام الحياة الأخلاقية والتدرب على الاكتمالات الستة (أي الفضائل أو الأمور البناءة التي حققها وكمّلها البوديساتفا). وخلال ذلك ينبغي أن يحصّل السالك في المسار كما هائلا من الفضائل و الأمورا بناءة (فكرا وقولا وفعلا) والكثير من الحكمة عبر حيوات من خدمة الآخرين في المسار نحو الاستنارة الكاملة. وكان يرى الهنود أن هذه هي الغاية الوحيدة لمن يتبع تعاليم بوذا شكياموني لنفع النفس والآخرين. وكما ذكر ديفيد سنيلغروف David Snellgrove أن “هذه الرؤية تفضل التدريب التقليدي الفكري والأخلاقي والذي ضمن استقرار حياة الرهبنة البوذية منذ تأسيسها”. لكن الجانب الصيني يرى أن المسار الأفضل يكمن في الادراك من خلال التأمل لطبيعة بوذا هنا والآن. وهواشنغ يمثل الرؤية القريبة من الزن (Ch’an أي الزن الصينية) وهو أنه في كل كائن حساس تكمن الطبيعة المطلقة لحالة الاستنارة. ومن خلال التدرب على التأمل يمكن للفرد أن يزيل المعيقات أمام التأمل حتى يتم ادراك الاستنارة في هذه الحياة. وبالنسبة لهواشانغ فإن المعرفة الفكرية والأخلاقيات التقليدية ليست هي النقطة الأساسية ويمكن أن تقف حائلا وتضر وتعيق الادراك المباشر للاستنارة داخلنا. ومن خلال هذا المسار فإن ما يناله السالك من حكمة تلبي الغرض الأساسي من المعرفة الفكرية وكذلك بالنسبة ببرأفة الخالية من الأنا والغرور تلبي الغرض الأساسي من الأخلاقيات التقليدية. من الصعب تحديد أي الفريقين كانت له الغلبة في المناظرات. فهناك الكثير من التعقيدات بما في ذلك الظروف والانتماءات السياسية. وبعض المصادر تحابي أولئك وبعضها يحابي غيرها. لكن بعض المصادر وهي أقدم ومعتمدة أكثر تشيد برجوح المناظرات لجانب وجهة النظر الصينية.
بعد أن اغتيل الملك رالباكان عام 836 من قبل شخص يدعى لانغدارما Langdarma والذي قُتل عام 842، عمت الفوضى مدة 150 عاما فلم تكن هناك قوى سياسية موحدة في التبت ودخلت التبت في صراعات أهلية وحروب طاحنة. فقد تبخر جميع الدعم للبوذية من الحكام وطبقة النبلاء والعائلات الغنية واختفت بذلك في هذه الفترة البوذية في شكلها المؤسسي. ويرى المؤرخون أن هذه كانت فترة فاصلة من الظلام إلى أن جاء الانتشار أو النقل الثاني للبوذية.
لكن اذا نظرنا من وجهة نظر أخرى وكما يرى ريجي ري: “فإن هذه الفترة تعد من أهم وأكثر الفترات ابداعية في تاريخ نقل البوذية إلى التبت.” ففي هذه الفترة وكما ينقل التاريخ لاحقا أن التعاليم البوذية وسلاسل المعلمين والتدريبات وخاصة تدريبات التانترا لم تكن معتمدة في وجودها على مؤسسة الرهبنة بل استمر المعلمون والتلامذة والمجموعات الصغيرة من المتدربين بممارستها والتدرب عليها بشكل منفرد ومنعزل عن السلطات. واستمرت اليوغينيات واليوغيين (yoginis والمذكر yogins ) في الدخول في معتزلات والتدرب وسبر أعماق المسار البوذي الروحاني في أسمى أشكاله. وفي هذه الفترة أيضا درس اليوغيون والمتمرسون في الطقوس من البوذيين مع معلمين آخرين من غير البوذيين وقاموا مجتمعين على تطويع القوى والكائنات غير المرئية وجلبها إلى عالم البوذية وأصبحت الكثير من الأفكار والتدريبات التي كانت موجودة في التبت سابقا ناقلات للدارما (مثل الموروثات الروحانية التي تتعامل مع الموت والاحتضار).
ويمكن الاستدلال على الابداع الهائل لهذه الفترة لأنه مع الانتشار والنقل الثاني للبوذية ومع استقطاب البوذية من الهند من جديد، حدث ذلك ضمن أسس ودعامات قوية وسلاسل من الأفراد الذين نضجوا في تدريبهم الروحاني واستمروا بشكل منفصل عن الشكل المؤسسي المركزي من الفترة الأولى وأطلق على هذه السلاسل (Lineages) فيما بعد نيغما Nyingma أي المتدربين الأوائل على الدارما أو المدرسة القديمة.