الاكتئاب والتأمل!
هناك بعض الأصوات التي تنادي بأن التأمّل أو الحضور الذهني ليس للجميع. من تجربتي في بعض مراكز التأمّل ومعلّمي التأمل في الغرب، ليست المشكلة في التأمل. بل تكمن المشكلة في غياب التدرج في التدريب وغياب القاعدة الأخلاقية والحكمة والتي بدونها لا يكون هناك أية أساسات قوية لممارسة التأمل أو الحضور الذهني. وأيضا بدون تنمية الوعي من خلال تأمل الشماتا Shamata وفيباسنا Vipassana لا يمكن تنمية الرَّأفة والمحبة ولهذا يُطلق على الرأفة بدون وعي “الرأفة الحمقاء” كما أنّ التأمل بلا تدريب على المحبّة والرأفة يؤدّي لمشاعر الخواء والاكتئاب.
ومن أسباب ذلك أيضا غياب معلّمين قديرين في هذا المجال. فقد يتبع البعض أي معلم بسبب ما يتظاهر به من العلم أو لأننا كُسالى لا نرغب في بذل جهد حقيقي في انتقاء المعلم المُتمكّن لأن التمكن يعني أن هذا المعلم يستطيع أن يدرك المرحلة التي نحن فيها ويقودنا حتى في فترات التخبط والتشويش الذهني، بدلا من أن يزجّ بنا في مرض نفسي أو متاهات تعظيم الأنا. ولذلك يقع الناس في فخ الاكتئاب والأفكار العدمية والضياع عند ممارسة التأمل والحضور الذهني دون أسس قوية معينة سواء كانت بوذية أو غيرها. وتراث الحكمة القديم ليس كله هباء وخاصة الفكر البوذي الذي يوفر تدريبات تدريجية ومناسبة لتطور الذهن. يعود السّبب وراء ذلك في الرغبة في عدم الالتزام بمسار معيّن بشكل كامل إما بسبب الكسل أو الخوف من الدخول في “دين” البوذية.
هل البوذية دين؟
بداية، وبسبب النّفور من فكرة الأديان، يرغب البعض في الانتقاء من الفلسفة البوذية ما يظنُّون أنّه علماني. فيأخذون ما يُعجبهم ويتركون ما لا يعجبهم. فيقتصر البعض على التأمل والحضور الذهني دون القيام بتدريبات أخرى ضرورية أو فهم الرؤية التي تنطلق منها هذه الفلسفة. فالتأمل لا يكون في الفلسفة البوذية بمعزل عن تدريبات تدريجية في تنمية الرأفة والمحبة والحكمة.
حتى ولو نظرنا للبوذية كدين فهي ليست بالمعنى الديني التقليدي، فهي شكل مُنظّم من أسلوب التعليم والدراسة والتدريب وهذا التنظيم لا يخلو منه أي مظهر من مظاهر حياتنا كبشر. لكنها ليست دين بمعنى أنّه لا يوجد في الفلسفة البوذية فكرة الإله أو النبي أو الشخص المُخلّص، وما فيها من رهبنة وطقوس وتلاوات ما هي إلا لتصفية الذهن والقلب والارتقاء وهي ليست ذاتها طوق النّجاة. فالخلاص والنّجاة هما بيد الفرد وحده.
ومن هنا لا بدّ من اتّباع المسار كاملا وعدم الانتقاص أو أخذ هذا وتجنّب ذاك مع العلم بأنّها غنية بالكثير من الطرق فهناك حياة الرهبنة monasticism أو حياة اليوغي yogi وغيرها … إلخ. فهناك الكثير من الخيارات أمام المُتدرّب.
ضرورة تلقي التعاليم من معلم حقيقي
في بعض البلاد وفي غياب وجود معلمين قديرين جدا، هناك أشخاص تدرَّبوا ربما لبعض السنوات وغالبا ما يقومون بالتعليم دون أن يكون لديهم إذن حقيقي بذلك لأن ذلك يتطلب عادة على الأقل عشر سنوات من التدريب كمعلّمين وليس لأن كممارسين فقط. ولا يمكنك الاعتماد عليهم اعتمادا كاملا. ونحن لا نتخِذ الملجأ إلا في الأشخاص الذين امتلأ ذهنهم بالحكمة والصفاء، وهناك من يتحدَّثون عن الحكمة والصَّفاء فقط بألسنتهم وهناك أيضا من يكون حضورهم يشع حكمة وصفاء. وتجربة الاستنارة والصفاء هي ليست مجرد أفكار جميلة تجول في الذهن وفكر فلسفيا ندركها فقط بملكة الفكر. بل حالة وتجربة وإن كان فهمها واستيعابها ضروريا كخطوة أوَّلية.
عندما تقوم بالتأمل دون معلم حقيقي وثقة، وليس مجرّد مُتدرب حتى لو قضى سنوات في معلمين قديرين فهذا لا يعني أنّه قدير مثلهم، فينبغي أن تتفحّص المعلّم بكل حيادية، وأن تتأكد من صدق ما يدَّعي قبل أن تسلّم له أعز ما تملك وهو تطورك الروحاني. لكن نتركهم ونحن ممتنون لما قدّموه لنا دون الاساءة لهم.
حدث لي مرّة، وبعدما قضيت ثلاث سنوات مع أحد المعلمين الدين تعلَّموا على يد أفضل المعلمين، أنّني توجهت إلى غيره بعدما لم أحصل على إجابات وتوضيحات على أسئلتي. فتركته وأنا مُمتنة لكل ما تعلمته منه وشكرته وغادرت.