من كتاب ” لمس الاستنارة”
للدكتور ريجي ري
From touching Enlightenment
By Dr. Reginald A. Ray
(ريجي ري تعلم على أيدي العلامة تشوغيام ترونغبا Chögyam Trungpa Rinpoche منذ عام 1970. وساعد في تأسيس جامعة ناروبا الامريكية التي تعتمد الفلسفة البوذية في مساقاتها العلمية وعلّم هناك. وكان من أوائل المعلمين في تعاليم الشمبالا والتي عمرها آلاف السنين والتي قدمها ترونغبا للغرب وهي تنادي بتأسيس بمجتمعات علمانية روحانية مستنيرة).
من الكتاب:
“نداء الغابة”
في الماضي كانت تعتبر “الغابة” مكانا لا تطوله الثقافة التقليدية البوذية والبوذية في شكلها المؤسسي. فالمساحة التي تمنحها الغابة هي فضاء مفتوح لا يعيقه عائق. كانت الغابات غير المأهولة ملاذا لممارسي البوذية كمسار روحاني، وذلك عندما بدأت تُثار الاسئلة حول مصداقية المؤسسات البوذية التقليدية بمعتقداتها وممارساتها والسياسات المرتبطة بها. وبذلك شكلت الغابة مكانا لا يمكن اقتفاء أثره لل”آخرين” الذين يقفون خارج الثقافة التقليدية حيث الحيوانات البرية والوحوش والآلهة والأشخاص المنبوذين ومن بين هؤلاء المجانين والمجرمين والمرضى ممن استعصى شفاؤهم، لكن على رأس كل أولئك الممارسين الروحانيين الذين غادروا الأنظمة الدينية التقليدية للهند آنذاك ساعين وراء “أصل كل الأشياء”.
كانت تعتبر الغابة في الثقافة الهندية مكانا مثاليا للتدريب الروحاني لأنه ليس في الغابة قوانين وليس هناك سلطات حاكمة. والسلطة الوحيدة هي فوضى الغابة نفسها، والقانون الوحيد هو ما يكمن في انتظار كل متدرب حتى يكتشف كل بطريقته. فلا وجود هناك للبنية التحتية للحضارات من ذكريات الماضي وخطط المستقبل، فالغابة قصة أخرى. ففي الغابة هناك احتمالات ما ينشأ في اللحظة، احتمالات الآن، كل الاضاءات والمواجهات التي تنشا مباشرة من الواقع نفسه دون أن يلوث برغبات وتوقعات البشر أو ما يحملونه من مواقف. وفي الغابة يمكن أن تحدث أقوى التجارب البشرية والتي تجعلنا في اتصال مباشر مع الوجود الفطري أو الأولي. على العموم كان أعظم المتدربين في التراث البوذي سواء في الهند أو آسيا ككل من “نتاج” الغابة. وهم راحوا في رحلتهم إلى الغابة مثقلين من البوذية في شكلها المؤسساتي في القرى والبلدات آنذاك. مستمدين الإلهام من سبقوهم ممن اختفوا في الغابات سنوات أو عقودا من الزمن أو بقية حياتهم.
لكن في عالمنا الحالي ليس هناك غابة بالمعنى الجغرافي لنلوذ لها نحن المتدربين، فالحضارة المعاصرة لم تكتسح فقط الأماكن التي يتكرر عليها المتدربون على التأمل – فتم بيع الغابات للشركات العالمية وتم تقطيعها بسرعة، وشُقت الطرقات في مناطق المعتزلات، ودمرت السياسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فرصة ذهاب المعتزلين للتدرب في الغابات، حتى انه تم تهميش فكرة ” الغابة” في البوذية الحديثة. ويبدو الان أنه على كل ما يتجلى من البوذية ينبغي أن يكون ضمن ” الاندماج الاجتماعي” و “الأثر الأخلاقي”. وليس المقصود بذلك أن هذه قيما غير مهمة لكنها اصبحت اليوم اختبارا لانتقاء أي الأشكال من البوذية مقبولة وأيها مرفوضة. ولهذا فإن الغابة الحقيقية تختفي الآن بسرعة – وربما للأبد – من عالمنا.
لكن هناك برية جديدة لا يمكن اقتفاء أثرها، مساحات مجهولة ولا نهاية لها، وتضاريس من الفوضى، ولا يمكن – في اعتقادي – استعمار هذه المساحات أو تمدينها أو تدجينها بطموح وجشع الانسان، هذه المساحات هي جسد الانسان والتي لا يمكن تحديد خرائط لها حسب منطق الانسان. وأرى الآن أن الجسد هو غابتنا و الاتساع والامتداد “غير المألوف” الذي يدعونا لنتخلى عن الانماط التي اعتدنا التفكير بها.
وهنا لا أتحدث عن الجسد الذي نظن أننا الجسد الذي يمثل جزءا من “أنا” وكيف أبدو. بل أقصد هنا الجسد الذي نلتقي به عندما عندما تكون لدينا الرغبة في النزول فيه والاستسلام لعتمته وغموضه ونستكشفه من خلال وعينا. وكما سنرى لا يمكن دخول هذا الجسد اللامنتهي والحقيقي وحتى نتخلى عما اعتدنا عليه من طرق تفكير، وهذا يشبه الغوص في البحار العميقة: فبينما يطفو الغواص على السطح يكون لديه القليل من المعرفة حول ما يكمن تحت سطح الماء، لكن عندما ينزل للأعماق تنفتح له أعماق المحيط اللامنتهية. وهذا الجسد المجهول وغير المحدود هو ما قال فيه السدا العظيم سراها the great siddha Saraha: ” لا يوجد مكان أكثر انفتاحا وروعة للحج مثل جسدي، ولا مكان يستحق الاستكشاف أكثر منه”.
التحدي المطلق للبوذية
إذن تتطلب منا العودة لغابة الجسد أن نكون مستعدين أن نخطوا بعيدا عن الماضي وكل موروثاته وتقاليده الدينية والروحانية. وفي نفس الوقت وبالنسبة لي وبناء على هذا الكتاب، فإن الإرث البوذي نفسه بقِدَمه ونُبله يقدم لنا السبل والتوجيه في كيفية تحقيق ذلك. ومن الملفت أن ننظر كيف أن الفلسفة البوذية – والتي نفسها “موروث تقليدي” – تشير الى ما وراء كل التقاليد الانسانية وتنادينا الآن وتدعونا إلى حياة روحانية مجردة. وكما أشار Walpola Rahula في كتابه ماذا علم بوذا What the Buddha had Taught أن موقف البوذية كان دائما أن الروحانية ليست ملكا حصريا لأي إرث أو تقليد ديني أو روحاني. وفي واقع الأمر وخاصة في تقليد الماهايانا الروحانية ليست منفصلة وبأي شكل عن الحياة البشرية نفسها – وبكل ما في الكلمة من معنى تعتبر الرحلة الروحانية والوجود البشري أمرا واحدا. وفي هذا المعنى فإن البوذية – خاصة في شكلها الذي يتمثل في ناقلة الفاجرايانا – قد تحفظ الروحانية القديمة لأسلافنا وأجدادنا القدماء الذين يرون أن التجربة الانسانية هي تجربة روحانية بحد ذاتها – على العكس من “الأديان التي تقوم على عبادة إله أو آلهة”. فلايوجد فصل بين الروحانية والحياة نفسها.
وبناء على التعاليم التي تقول بطبيعة بوذا – أي أن فينا جميعا دون استثناء وفي جوهر وجذور وجودنا توقا ساميا ولايقاوم – وهذا ليس سوى توقنا لأن نحقق كل احتمالات وجودنا وأن نعيش تجربة وجودنا وحياتنا بكل حرية و بشكل كامل. دون شك أو تحفظ أو تمنّع. ومع هذا الادراك السامي والنهائي لأنفسنا – بكامل الحب والقوة – نكتشف في أنفسنا كل ما نحتاج أن نكون. وبهذا نكون حاضرين ومتوفرين للعالم وما فيه من كائنات تعاني، ونكتشف الاطمئنان والثقة المطلقة في الحياة.
لأن الروحانية هي طبيعتنا فهي ليست شيئا نسعى إليه خارجنا، وبشكل ما فهي ليست أمرا يمكننا الحصول عليه بل هي في أدق وأعمق وجودنا وفي شخصنا والذي نكتشفه شيئا فشيئا.
الموروثات الدينية عادة ما تكون ضرورية لتزودنا بفهم لإمكانياتنا وكيفية إدراك ذلك. لكن عندما تدعي هذه الموروثات الدينية امتلاكها لما نسعى من أجله فإنها تخدع نفسها وتقف عائقا على الطريق. هذه هي تعاليم البوذية وهذا ما حذرت منه من أوائل ظهورها حتى الوقت الحاضر.
والبوذية في أدق وأعمق تعابيرها ليست موروثا روحانيا يسعى للاجابة على أسئلة الحياة ليوزع “حكمة” تخفف من حدة خوفنا وقلقنا فهي تتحدانا بأن ننظر وراء وأبعد من أي أجوبة حصلنا عليها خلال الرحلة – وأن نواجه ونقابل أنفسنا بشكل مجرد ومباشر وخال من أي مخاوف. والبوذية كما يرينا Stephen Bachelor لا تزودنا بأسئلة بل تقترح عملية من الأسئلة الجذرية. وفي الواقع انها تتحدانا أن نتساءل حول كل شيء نظنه في أنفسنا وفي واقعنا- كل معتقداتنا وافتراضاتنا وتصوراتنا المسبقة الأساسية حتى الطريقة التي اعتدنا عليها في رؤية وسماع العالم وإحساسنا به. ينبغي أن نكون مستعدين أن نتخلى عن كل شيء اعتقدنا به، وكل جواب اختلقناه وأتينا به حتى هذه اللحظة – حتى نجد الحقيقة النهائية حول من نحن.
وهذه العملية من السؤال قد يكون مبدئيا شكلا من اشاء مفاهيم وأفكار جديدة؛ وقد يعني ذلك أن نرى شيئا نظنه شيئا ما ثم نسأل أنفسنا: ” لكن هل هذا هو حقا؟” لكن هذه الحالة تنتقل بسرعة الى دائرة صمت و تدريب تأملي – فالأفكار والإحساسات تنشأ بينما نتأمل. وفي كل لحظة نجد أنفسنا في رد فعل تجاهها بأن نسميها أونصنفها أو نصدر عليها حكما بناء على ما اعتقدناه أو افترضناه مسبقا. في كل مرة ننظر مباشرة على ما ينشأ في ذهننا لنعرف ما هو بالفعل خارج ادراكنا كما يسكن في النور المشع لوجوده. في هذه العملية نتعلم الكثير حول ما نقوم به من تحديد وتضييق أكثر تجاربنا الأساسية. وعندما نرى كيف نتشبث بالأشياء عندها يمكننا أن نتخلى عن تعلقنا بها وأن نستسلم لحس أكبر من الانفتاح والوجود، وهكذا تبدأ الرحلة.
بينما تميل الموروثات الدينية بدرجة ما إلى أن تكون حصرية فيما يتعلق بتجاربنا، الا أن مسار طرح الأسئلة الجذرية كوني وعملية شاملة، وفي هذا نأخذ وجودنا البشري على محمل عال من الجدية، وأن نأخذ كل شيء في حياتنا على أنه “المسار الروحاني”. وهي تقترح ان كل شيء حدث معنا هو جزء من من رحلتنا نحو إدراك الحقيقة. وأخيرا لا يعد شيء يبعدنا ولا احتمالية للتراجع، ولا وجود للأخطاء فكل شيء تعلُّم وتفتُّح، والسير قدما حتى لو أن السائد هو عكس ذلك. وهذا يوصلنا إلى نوع من التفاؤل الجوهري وغير المحدود حول ما هية الحياة البشرية ووجودنا، نوع من الاطمئنان والثقة يجري في أصعب ظروف الحياة. ربما أنه من غير الواقعي أن بإمكان أي موروث ديني أو روحاني أن يحمل هذا الشكل من التفاؤل المتدفق والبهجة في الحياة البشرية وما يجري فيها. لكن البوذية تتوق لأن تكون استثناء وخروجا عن المألوف.وتؤكد البوذية على أن الرحلة الروحانية يتفرد بها كل فرد عن غيره، ولذلك لا يمكن تحديدها وتضييقها والحكم عليها من أي مؤسسة أو موروث أو سلطات خارجية. فالرحلة الروحانية الفريدة التي تمتد أمامنا غير موجودة في أي نص أو شخص أو كائن خارجي أو دين. لكنها تمتد أمامنا لنكتشفها حيث نسير فيها. ولذلك لا يمكن أن نشكل تصورا مسبقا حول الرحلة الروحانية أو نحددها بشكل مسبق، فهي ليست من صنع أحد ولا من تلفيق أحد، وهي بحق رحلة نحو المجهول. الإبحار في بحر لم يبحر به أحد من قبل أبدا ولم يطأه أحد ولم يرسم حدوده أحد.ودور الموروث الروحاني – على الأقل بناء على البوذية – ليس بتحديد وتضييق السعي والبحث والتجربة والرحلة بل بفتح الأبواب على مصراعيها – الموروث هنا يعني الإلهام والتحدي والاستفزاز، وبعض التدريبات المساعدة وليس مجموعة من الأجوبة. وهي تزودنا بمركبة للابحار وبعد ذلك يعود الأمر لنا إن شئنا أن نبحر نحو عالم جديد حقا. لنجد ما سنجد. نعم إن مثل هذا البحث لأمر مهول ومروع! نعم ان هذا هو التحدي المطلق للانسان، وأصعب ما يمكن لأي انسان القيام به. لكنه أمر مكتوب فينا منذ البدء في جيناتنا وعظامنا. وكما سنرى في هذا الكتاب، فإن الرحلة مكتوبة في جسدنا نفسه في أعمق مستوياته وأدق طبقاته، وعندما نرتحل في الجسد، فإننا نرتحل في أعمق أنفسنا. عندما نقوم بذلك، فإننا لا نجد انفسنا منشدين أكثير وأكثر لاحتمالية ادراك من نحن وحسب بل نجد أنفسنا مندمجين بعمق في الرحلة نفسها.“