الجزء الرابع
الطبيعة النقية
ترجمة وإعداد خلود بركات
من مقالة “لماذا نتأمل” “Why We Meditate” للمعلم الكبير تشوغيام ترونغبا رينبوتشي
تننطلق الفلسفة البوذية وعلم النفس البوذي كما يذكر المعلم الكبير تشوغيام ترونغبا رينبوشي Chogyam Trongpa Rinpoche من أننا جميعا في جوهرنا أخيارا، وأن طبيعتنا الفطرية نقية وصافية ومُستنيرة. ففينا الذكاء والدفء والانفتاح. وهذا الفهم يُعتبر أساسيا في الفلسفة البوذية وفي الرؤية التي تنطلق منها هذه الفلسفة. ويعبر هذا المعلم العظيم عن صدمته عند قدومه للغرب بسبب تجذر فكر الخطيئة الأصلية أو الإثم في النفسية الغربية وهذا بسبب التأثر بالأديان المنتشرة هناك والتي نجد تأثيرها حاضرا حتى في ذهنية أولئك من غير المؤمنين بها. فهناك شعور عام بالذنب أو أن هناك جرحا ما لم يلتئم أو استحقاقا للعذاب والعقاب. وهذا في رأيه يقتل الإلهام.
وهو يرى أن هذه الطبيعة النقية أو الخير المتأصل فينا قد تغطيه غيوم التشويش الذهني وسُحُب الأوهام. فلا بد من الدخول في تجارب مثل التدرب على التأمل والدراسة لفهم كيف تتشكل هذه العوائق النفسية وتؤثر علينا وكيفية المخرج من ذلك. ولا يعد التركيز هناعلى الخطيئة أو الذنب بل على الأرضية التي ندرك من خلالها طبيعة الذهن الحقيقية. وتصبح المشاكل فرصة وليست تهديدا يستدعي القلق والهلع. وهكذا مع ارتفاع الوعي لدينا والحضور الذهني نكتشف الطبيعة الصحية ليس فقط في أذهاننا بل وفي أذهان الآخرين وهذا بحسب رأي ترونغبا يدفعنا للسير بشجاعة ووضوح.
التأمل هو محاولة الاتصال بطبيعتنا الأصلية (المستنيرة\النقية) وهي البذرة النقية أو الطبيعة الموجودة في جميع الكائنات أو الإمكانية للوصول للاستنارة وهي ما يطلق عليها أيضا طبيعة بوذا أو باللغة التبتية བདེ་གཤེགས་སྙིང་པོ (تلفظ: دِشِك نيِنغبو أي جوهر النقاء) ويطلق ترونغبا عليها أيضا بأنها الثقة الأساسية في أنفسنا والتي نكتشفها في التأمل وغالبا ما يحول بيننا وبين هذه الثقة كما يذكر ترونغبا هو المواقف التي نحملها ونتبناها والمفاهيم التي نحملها في أذهاننا والتي تُسدل حجابا بيننا وبينها. ولأن النجاة تأتي من الداخل حسب الفلسفة البوذية، فمن الضروري اكتشاف هذه الثقة التي في داخلنا بدلا من تقليد الآخرين، حتى نصل للمنابع الكامنة داخلنا. وهذا ينعكس أيضا على مزيد من الثقة داخلنا. وهو يؤكد على ضرورة البساطة في التأمل، وأحيانا بعض طرق التأمل تتبع أساليب من التصورات والتخيلات لألوان أو هيئات أو رسم صور في الخيال لكن هذه في نظر تونغبا وبناء على تعاليم بوذا هي أسلوب ترفيهي وقد يكون مصدرا للتشويش بدلا من أن يأخذ بيدنا للاستنارة وإدراك الحقيقة.
وهو يربط بأسلوب جميل جدا بين الانضباط والالتزام بممارسة التأمل، فيبين كيف أن هذا الانضباط يؤدي للانفتاح والخروج من القوقعة. كيف؟ عندما تجلس على مقعد التأمل فأنت تجلب حضورك ومواقفك من الأشخاص والأشياء، وتجلب انفعالاتك وعواطفك وعقلك الباطن وكل أمور حياتك، وهكذا يصبح كل شيء في حياتك جزء من ممارستك للتأمل، ويبدو هذا وكأنك تفتح بوابة خشبية كبيرة محكمة الإغلاق شيئا فشيئا. وعندما ترى أنك شققت الباب ولو قليلا تتولد فيك الحماسة للاستمرار لأنك نجحت مبدئيا في ذلك.
الفضول وحب الاستطلاع: من الضروري توظيفها وهي ما يطلق عليه تقليديا في البوذية ب “الإيمان أو الإخلاص”، فالفضول في الاكتشاف يدفعك دون كلل وملل إلى مزيد من الاكتشاف.
ومع التأمل تظهر لنا اضطراباتنا وتشويشنا، الأمور التي لا نرغب برؤيتها والتي ندفنها تحت الوسادة أو ما شابه لأننا لا نريد النظر إليها. لكن في التأمل نواجهها وجها لوجه. ولقد أجدنا على فترات طويلة الكثير من الحيل لتجنب هذه الأمور والظلال داخلنا، فالتأمل كما يقول ترونغبا: “تكشف هذه الحِيَل” ولذلك قد نشعر بالخجل أو الحرج من أنفسنا في بدايات ممارتنا للتأمل. وقد تشكك حتى فما إذا كان هذا التأمل مفيدا أم لا.
ومن قراءاتي للتشوغيام ترونغبا والتعاليم التي تلقيتها من العديد من معلمي الشامبالا ألاحظ أنهم يؤكدون على ذلك الدفء والحب الذي يبدأ يتولد وينشأ داخلنا وكيف أن هذا القبس يجعلنا نشعر بالثقة في أنه يمكن التعامل مع أنفسنا والظواهر من حولنا ومع ذلك الدفء الذي اكتشفناه داخلنا. وهذا الشكل من التأمل هو الوحيد الذي يمكنه أن يكون دليلنا في اكتشاف تلك الثقة داخلنا، لكن إذا سعينا وراء إمتاع أنفسنا بالطرق والأساليب المُضللة للتأمل حتى نُسلي أنفسنا، فقد تنفع لعدة أشهر لكن هذا لن يغلق الفجوة أو الشق داخلنا مثل المركب المشقوق والذي ينفذ منه الماء فلا يؤدي إلا للغرق. فالأساليب الروحانية المُضللة سوف تزيد من حجم هذا الثقب وهذا ما يسميه ترونغبا ب”الروحانية المادية” spiritual materialism وهي محاولاتنا في أن نخلق من الروحانية شيئا خارجيا نمتلكه ويسلينا، نجد أنفسنا نلقي اللوم على أي شيء وأي أحد لنهدئ من حدة الفوضى، فنلوم الحكومات والجيران والأنظمة ويبقى مركبنا يسيل.
ويؤكد ترونغبا أنه دون الانطلاق من فكرة النقاء المتأصل فينا وقبول فكرة أننا غير ناقصين والإيمان بها. فهذا هو الضعف بعينه وهو ما سيدفعنا للبحث في الخارج عما يطمئننا، فتستمر دائرة المعاناة. لن تتوقد الشعلة داخلنا دون العمل والتعلم المستمر مع النفس والآخرين وكل عالم الظواهر من حولنا.