بوذية التبت

بوذية التبت – الجزء الأول

Written by Dharmabustan

بوذية التبت - الجزء الأول

الجزء الأول

الجزء الأول في سلسة  تلخص تاريخ البوذية في التبت – من  كتاب  Indestructible Truth للدكتور Reginald Ray

حاضر الدكتور ريجي ري في عدد من الجامعات الأمريكية حول الفلسفة البوذية وتاريخها هذا عدى عن كونه من أحد طلاب العلامة Chogyam Trungpa  . وريجي ري  بذلك ليس مجرد دارس أكاديمي للبوذية بل هو ممارس لها وتلقاها على أيدي الكثير من المعلمين الكبار في هذا العصر من التبتيين وغيرهم وهو معلم للدارما وينظم العديد من المعتزلات والبرامج التدريسية حول الدارما.

نظرا لشح المصادر في العربية حول البوذية من وجهة نظر دارسين وممارسين لها، رأيت تقديم تدرجا تاريخيا حول الفلسفة البوذية موضحة بعض المصطلحات الهامة في هذا المجال نظرا لأهمية الموضوع بالنسبة للقراء سواء الذين يرغبوا بتوسيع مداركهم حولها أو الراغبين في التعرف أكثر على الفلسفة البوذية من مصادر موثوقة وعلمية. الكتاب الذي ترجمت منه ولخصت هذه المعلومات كما وردت يتسم بالموضوعية واتباع أساليب البحث العلمي في الحصول على المعلومات من مصادرها الموثوقة وإظهار أكثر من وجهة نظر تحليلية خاصة من وجهة نظره كممارس للدارما ومعلم للدارما في الغرب. ورغم أن الكتاب يقع في أكثر من 400 صفحة إلا أنني سأحاول في هذه الأجزاء تقديم مقتطفات توضح التسلسل التاريخي وتوضيح العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة في الفلسفة البوذية.

مقدمة

” لن تحمل أي حقيقة الكثير من المعاني ولن يكون لديها تأثير حقيقي إن كانت مجرد مجموعة من الأفكار المجردة. والحقيقة المُعاشة أو الحية ان جاز التعبير قد تشكل تحديا وتهديدا وتحولا. والنوع الأول من الحقائق يضم معلومات جمعت وأضيفت الى مخزوننا الذهني من على بعد مسافة آمنه منا، أما النوع الثاني فهو يهدد التفاسير المألوفة لدينا حول العالم. تذهب بنا الحقيقة المعاشة الى أعماق كبيرة في المساحات المجهولة حول ماهية الحياة التي نعيشها. بالنسبة للبوذية التبتية هي طريقة للعيش والحياة في هذا العالم، وهي تختلف بشكل كبير عن أساليب الحياة السائدة في الغرب. هناك العديد الملامح التقليدية والقديمة لهذه الثقافة والتي لن نتمكن أبدا من فهمها أو تقديرها. لكن هناك ملامح أخرى خاصة فيما يتعلق بالارث البوذي والتي يمكن أن تساعدنا في أن ننظر من منظور جديد ومختلف لمحددات واحتمالات وضعنا المعاصر. ليس من الغريب أن لدى البوذية التبتية الكثير مما يمكن أن تقدمه لنا في هذا العصر. تعتبر البوذية فلسفة وتقليدا ملفتا للاهتمام لأن أحد أقدامها في الماضي والأخرى في الحاضر. فقد نهضت في فترة كانت تشهد فيها الهند تحولا إلى حضارة “عليا. وقد قال بوذا شكياموني ” إنني أتبع المسار القديم” وكان يعني بذلك “العودة” لتجربة أكثر عمقا للحياة البشرية أكثر مما كان يتشكل في وقته آنذاك في الهند. بذلك لا يعني الحقيقة الميته والثابته لكن الحقيقة الحية ودائبة التغيير والنشوء. وهذا ما حافظت عليه البوذية التبتية أكثر من أي شكل من أشكال البوذية في مناطق أخرى في العالم.” – ريجي ري

التبت

“بدأت البوذية بالظهور في التبت قرابة القرن السابع ميلاديا. وكانت البوذية التبتية في أوجها من أكثر التقاليد الروحانية حيوية وتنوعا وعمقا في العالم. وبعد حوالي 14 قرنا تعرضت الحضارة التبتية والفلسفة البوذية فيها لكارثة إبان الغزو الصيني في عام 1949 وما تلى ذلك من الاحتلال السياسي وقمع أهالي التبت. لكن كثيرا ما يقال أن النقمة التي حلت على التبت كانت نعمة للعالم حيث اضطر مئات الآلاف من أهالي التبت إلى الفرار للمنفى. ومن ضمن هؤلاء كان الكثير من المعلمين الكبار الموهوبين والذين عرضوا وقدموا فلسفتهم النبيلة للعالم الغربي منذ الستينيات. وهي تدرس الآن في كثير من الجامعات الغربية والآسيوية.

من وجهة نظري الشخصية تكمن الأهمية الكبرى للبوذية التبتية للعالم في ما هو اكبر من التبت أو حتى البوذية ذاتها – تكمن على نحو فريد في أن تحثنا نحن الشعوب العصرية في استعادة طبيعتنا الجوهرية، ودون ذلك لن يتبق لنا الكثير من الأمل للاستمرار قدما.  ولايمكن القيام بهذا بشكل مجرد، وبمجرد التفكير فيه وحسب. فنحتاج لأن نقابل حضورا انسانيا ونرى وجها ونسمع صوتا حتى نتعلم. وحتى نتعلم من الضروري أن نكون مستعدين لأن نفتح أنفسنا ونجازف التغيير. يقدم التبتيون – من خلال معاناتهم الشديدة جدا وكرمهم غير المعهود – أنفسهم كمصادر وأصدقاء لنا في مثل هذا المسعى.

لقد امتدت الحضارة التبتية عبر مساحة كبيرة من آسيا بما في ذلك ما نعرفه من التبت السياسية إلى مناطق أخرى مثل آسام في الشرق وبوتان وسكيم وأجزاء من نيبال في الجنوب والجنوب الغربي ولاداك في الغرب. ورغم التدمير والخراب الذي لحق بالتبت نتيجة الاحتلال الصيني إلا أن البوذية التبتية ما تزال تمارس في هذه الأماكن. تتميز الطبيعة بسلاسل جبلية تصل ارتفاع ثلاثين ألف قدما فوق سطح البحر، وصحارى شاسعة وسهول وهذه التضاريس لم تعزل التبت تماما عن العالم لكنها بالتأكيد أعاقت التأثير الخارجي عنها. وقد عزز من هذه العزلة النسبية  عوامل ثقافية وجيوسياسية. وحتى نفهم طبيعة وتنوع التبتية البوذية من الضروري أن نفهم جغرافية التبت والتي أثرت على سياسة التبت ومجتمعها وثقافتها. ويمكن أن نقسمها في المجمل الى ثلاث مناطق: الثلث الشمالي وهو صحراء شاسعة غير مأهولة حيث البرد القارس في معظم السنة والريح العاتية،  تقطعها سلاسل جبلية، والثلث الأوسط والذي رغم ارتفاعه وبرودته فيه التلال والأراضي العشبية تتخلله سلاسل الجبال العالية والبحيرات الكبرى. وهنا يعيش البدو الرّحل من أهل التبت والذين يتمتعون بالشدة وقدرة التحمل العالية جدا، وهم يقومون على تربية الماشية والماعز وثور التبت ويعيشون في الخيام. والثلث الجنوبي والذي يضم الأنهار ورغم ارتفاعه إلا أنه رطب ومعتدل وخصب نسبيا بالمقارنة مع الأجزاء الأخرى، وهنا عاش معظم سكان التبت وهم قرابة ثلاثة ملايين نسمة في قرى صغيرة وبلدات كبيرة تعتمد على الزراعة بشكل أساسي.

طبعا هناك ارتباط كبير بين البوذية التبتية والهند. والتبتيون يقرون بهذا الارتباط وبالنسبة لهم تعتبر الهند “الأرض المقدسة” التي جاء منها بوذا شكياموني حيث تطورت معظم التقاليد البوذية . ورغم أن البوذية اختفت من الهند الا أن التبتيين يبجلون الهند ويذهبون لكهوف معينة هناك للتأمل أو زيارة بودغايا Buddhagaya حيث وصل بوذا للاستنارة ويستشعرون هناك حضور المعلمين القدماء لما جلبوا من تعاليم نبيلة ويشعرون بارتباط معهم.

ومع أن “بيت أ موطن” أو “المساكن النقية ” – للكائنات المستنيرة مثل البوذات والبوديساتفات خارج السمسارا أي دائرة تكرار الميلاد حيث الرأفة لا حدود لها ولا وجود للمعيقات ويسود الفهم والبساطة وحيث الدارما تُسمع باستمرار حيث كل الروائح عطرة وكل الأصوات عذبة وكل منظر يسر الناظر- إلا أنهم يظهرون في هذا العالم ليساعدونا في الوصول للتحرر. ومثال ذلك بوذا شكياموني الذي ظهر على الأرض قرابة  2500 سنة وجلب تعاليم وتدريبات الدارما لهذا العالم. وهكذا يتجلى البوديساتفات ومن رحل من المعلمين …ألخ جالبين معهم التوجيه والالهام. وعوالم النقاء هذه لا تعد ولا تحصى.

وبناء على علم الكون أو الكوزمولوجيا في التبت تصف البوذية التبتية الكون داخل السمسارا بأنه يزخر بالكثير من عوالم الوجود وأحدها البشر. والوجود إما في عالم السمسارا أو متحرر منها. وهذا المفهوم لا يتفق مع المفاهيم المعاصرة التي تقتصر على معطيات  تعتمد على معايير مادية محدودة مثل المادة والاتساع والحركة وتتجاهل غيرها. لكن الأمر يختلف بالنسبة للكوزمولوجيا التبتية فلديها “معطيات” مختلفة. ويفهم العديد من معلمي الدارما من التبتيين  الكون الذي تصفه العلوم المعاصرة فهما جيدا بما في ذلك جغرافية هذا العالم واتساع الكون مما حصلنا عليه من الفيزياء الفلكية. لكنهم يجيبوننا ” لكن هذا هو فقط عالم الانسان”، وهم يشيرون إلى أن وهناك العوالم أخرى والتي لا يمكن رؤيتها بالأدوات العلمية المتاحة وأن هناك الكثير من لطائف ودقائق التفاصيل التي لم يتم وصفها بعد حتى ضمن عالمنا هذا. تنظر المادية العلمية وهي السائدة في علم الكون الغربي لهذا العالم فقط ضمن “القوانين المادية” من فيزياء وأحياء وكيمياء ..إلخ وهكذا فهي تصف عالما ميتا دون حضور روحاني ودون أي معنى.

وتشير السمسارا إلى الكائنات التي لم تتحرر بعد والتي ما يزال وجودها محكوما بالاعتقاد بالأنا على أنها موجودة وجودا ثابتا، وهذه الكائنات يقادون مثل العميان، تقودهم ملوثات المشاعر المزعجة وأوهام الدفاع عن “الأنا أو الذات” وتمجيدها وكأنها موجودة وجودا ثابتا. وتنشأ عن ذلك عواقب الكارما والتي تصبح جزءا منهم. وتحدد هذه الكارما في أي من العوالم التي لا تعد ولا تحصى سيكون ميلادهم. لكن مع أنهم قد ينهوا بعض الكارمات السابقة – أي عواقبها – إلا انهم سيخلقوا كارمات مستقبلية. وتستمر هذه الدوائر من الألم واللذة إلى مالا نهاية.

يخلق منظورالكوزمولوجيا التقليدية بيئة قوية وفريدة لممارسة البوذية التبتية فالنظر للعالم على أنه مشحون روحيا يسمح بعلاقة من الحميمية والتبادلية مع العالم النسبي. ومع أن هناك التكرار اللامنتهي للحياة في دائرة من الحياة يتبعها موت وهكذا، محكومة بقانون الكارما إلا أن هناك حالة الاستنارة أو حالة أو طبيعة بوذا خارج تلك الدائرة المخيفة وهذا يبعث على التفاؤل ويعطي قيمة للحياة، ونظرا للإطار الزمني غير المحدود  يمكننا الاسترخاء وعدم الاستعجال في رحلتنا الروحية والسير بالشكل الذي يناسبنا دون عجلة.

ولقد حققت البوذية التبتية ما يبدو أهدافا متناقضة مظهرة عُقم السمسارا تاركة اليسير من الخيارات أمام المنتمين لها سوى البحث عن مسار روحاني، مع أنها في نفس الوقت أثارت فيهم إحساسا بالثقة والبهجة والرفاه تجاه حياتهم كبشر باحتمالاتها غير المنتهية.”

About the author

Dharmabustan

إ

Leave a Comment