لقد قمت بترجمة هذا الكتاب وهو من تأليف لاما تسولترُم أليوني ( لقب لاما يطلق على المعلمة أو المعلم في المسار الروحاني في الفلسفة البودية) وقد كانت من أول الراهبات البوديات في أميركا لكنها تركت الرهبنة ومارست رغبتها في تكوين عائلة، لكنها استمرت في السفر وتلقي العلوم البودية على أيدي المعلمين الكبار وقد قدمت وما تزال تقدم الكثير للعالم الغربي في مجال الفلسفة البودية كممارسة وعلم وأسلوب حياة. لقد جمعت بشكل رائع بين علم النفس الغربي والفلسفة البودية في أعمق أشكالها في هذا الكتاب. هذه المعلمة – والتي تلقيت بعض التعاليم منها الان تدعى تسولترم أليوني والآن أشارككم بمقتطف من كتابها عنوانه “غذّ الوحوش داخلك:[/vc_column_text][/vc_tta_section]
“عندما كان ابني كوستانزو في الخامسة والعشرين من عمره وعندما دخل في معتزل طويل مدته سنة (المعتزل هو مكان يتوجه إليه الراغبين في تعميق ممارسات التأمل وغيره من الممارسات الروحانية وتلقي التعاليم). قال له معلمه آدزوم رينبوتشي، “تذكر أنه من السهل ممارسة التأمل عندما تكون الظروف مواتية؛ لكن الاختبار الحقيقي للمُارِس الجيد للتأمل عندما تكون الظروف صعبة.” وكان هذا مفيد جدا بالنسبة له عندما ضايقته وحوشه الداخلية أثناء المعتزل فقد جعلته مصمما على التعامل مع وضعه وتغذية الوحوش بدلا من مجرد القاء اللوم على الظروف أو الشعور بأنه مثقل من أفكاره وعواطفه.
عندما تظهر الصعوبات في حياتنا، يمكننا النظر إليها إما على أنها عوائق أو حبوب الطحن في الطاحونة ذات القوة الكامنة في جعلنا أقرب إلى اليقظة والتنوير. وبدون هذه التحديات وبدون إدراك أخطائنا، سوف نمضي حياتنا في انتظار الظروف المثالية بدلا من العمل مع أنفسنا بجد، وفي حقيقة الأمر فإن “أعداءنا” والذين يثيرون أشياء فينا ويستفزوننا ليظهر أفضل ما فينا، هم أعظم معلمينا، وبدلا من النظر إليهم على أنهم وحوش يمكننا رؤيتهم على أنهم هدايا لنا.
ويعتبر الهوس بالأشياء والإدمان والمخاوف أجزاء من أنفسنا، والتي أصبحت “وحشية” لأننا فصلناها وأنكرناها وحاربناها. عندما نحاول الهرب من وحوشنا، فإنها تسعى وراءنا، وبالتصارع معها كقوى بلا أشكال، فإننا نزيد من قوتها وربما نخضع لها بالكامل، وعلى سبيل المثال، عندما يحارب شخص الإدمان على الكحول بدلا من تغذية جذور الأسباب التي أدت للإدمان قد يؤدي في النهاية إلى موته من مرض في الكلى، والشخص الذي يصارع الإكتاب دون التصالح مع أساس المشكلة قد ينتحر في النهاية. ونحتاج لأن ندرك أن الصراع بلا جدوى، وأن الشعور بالظلم من الظروف الخارجية ليس الحل. ونحتاج لنعطي شكلا للوحوش داخلنا وصوتا لتلك الأجزاء داخلنا والتي نشعر بظلمها لنا. وبالتعامل مع هذه الأجزاء داخلنا نتمكن من الوصول لجذور السلوكيات المختلفة التي نقوم بها وتحويل طاقاتها إلى حليف وعون لنا، وهذا لا يعني أننا نقوم بسلوكيات هدّامة ومدمّرة، بل نقر ونعترف بالسلوكيات المخفية والمضمر فينا”.
“ويصف عالم النفس الشهير كارل يونغ الجانب المظلم فينا بأنه “الظل” والذي يمكن أن يظهر في الأحلام أو على شكل إسقاطات على الآخرين. ويتضمن الظل الذي يصفه هذا العالم الأجزاء من أنفسنا التي يعتبرها العقل الواعي غير مقبولة. والظل هو النفس المكبوتة، الجوانب غير المُرحّب بها في شخصيتنا والتي ننكرها. وقد تكون شعورنا بالخجل، أو الغضب، أو تعصّبنا، هي الأشياء التي لا نريد أن يعرفها الآخرون عنا، والتي غالبا ما تظهر في الأحلام كأفعال يرفضها العقل الواعي، فعندما يرى شخص متزوج في الحلم أنه في علاقة مع امرأة أخرى، فهذا هو الظل. وغالبا لا نعي جوانب الظل هذه من شخصيتنا، لأنها غير مرئية للعقل الواعي. فيشجعنا الظل على تناول صحن كامل من الحلوى حتى لو لم تكن لدينا النية لتناول أي منها. ويجعلنا الظل نهين شخصا دونما تفكير مع أننا نحاول إعجابه.
ومن خلال تغذية الوحوش داخلنا (ممارسة من خمسة خطوات يتم من خلالها تحديد الطاقة السلبية التي حبست وكبتت أثناء الصراع الداخلي أو الخارجي والتي عند تحررها من خلال هذه الخطوات تصبح طاقة مساندة وحليفة لنا) نصبح واعين بالظل والكنوز التي يحبسها بدلا من كبته. وإن عدم الوعي بالظل ودمجه في حياتنا، سيجعله يعمل في الخفاء، ويفسد أفضل نوايانا، عدا عن التسبب في الأذى للآخرين. ويقلل وعينا بالظل من قوته الهدٌامة، ويحرّر طاقة الحياة المخزونة فيه.
وباتٌخاذ ما يخيفنا بشدة صديقا لنا، فإننا نجد ضالتنا من الحكمة. ويخفٌف حلٌ الصراعات الداخلية من حدٌة الشر الذي ينشأ عن العقل اللاواعى والذي يساهم في ظهور المجموعات الخطرة في العالم.
ومن خلال ممارسة تغذية الوحوش داخلنا، فإننا نتخيّل أننا نقدٌم أعزّ ما نملك لأكثر الأشياء تهديدا وأشدٌها إخافة لنا (الوحوش داخلنا)، وبذلك فإننا نتغلّب على كل المعاناة من جذورها، وهي تدعى في الفلسفة البودية التمركز حول الذات.”
عندما كان يعيش ميلاربا وهو اليوغي العظيم من التبت، في كهف في معتزل طويل، حاولت وحش أنثى أن تختبر ما وصل اليه من إدراك، وقد حصلت على دعم من وحوش آخرين وفي أحد الليالي وفي منتصف الليل هجموا عليه بكل قوتهم، في البداية شعر بالخوف ونادى معلمه، والكائنات العليا والحماة، وهذا جعل الوحش الأنثى تشعر بالسعادة لأن ذلك كان دليلا على أنه لم يصل للإدراك بعد، وكثفت الوحوش من حدة هجومهم على ميلاربا.
وفجأة تذكر ميلاربا التعاليم التي تلقاها من معلمه ماربا Marpa حول طبيعة الذهن، تعاليم حول الطبيعة المتأصلة للنفس والظواهر، وتذكر بأن قوة الوحوش تعتمد فقط على التشبث بالأنا، وما أن تذكر هذا حتى غير موقفه تماما وقدم جسده للوحوش بنفس الطريقة التي قامت بها المعلمة ماتشيغ مع الناغا الذين قاموا بمهاجمتها، وفورا غيرت الوحش الأنثى وجميع من لتم حولها من وحوش موقفهم، وتعهدوا بحمايته وحماية أتباعه، وقد نصحته بأنه كلما تشتت ذهنه ينبغي عليه التأمل حول جوهر الذهن وطبيعته الحقيقية وأن لا يقع في فخ التشبث بالأنا.وقد كان تشبثه بنفسه ما أثار فيه مشاعر الخوف ولذلك أظهرت له الوحش الأنثى أنه من الضروري فهم وحش التشبث بالأنا من أجل الوصول للفهم الحقيقي لطبيعة الوحوش.
ومن خلال لقائنا بوحش التمحور حول الأنا نصل في النهاية إلى أعمق الوحوش وأكثرها مركزية، وعندما سمعت لأول مرة حول الطريقة التي تصنف فيها ماتشيغ الوحوش إلى أربع مجموعات، بدى لي وكأنها كانت في الترتيب الخطأ، وأن وحش التمحور حول الأنا يأتي بداية، وليس اخرا، لكنني رأيت بعد ذلك أن فهم الوحوش الثلاثة الأخرى هو ما يجعلنا نفهم الوحش الرابع.
سوف تلاحظ عزيزي القارئ أنني لم أخصص أمثلة منفصلة حول وحش التمحور حول الأنا في هذا الفصل، لأنه ليس في الواقع وحش منفصل فهو مصدر الوحوش الثلاثة الأخرى، وتعتبر جميع الوحوش الخارجية والداخلية ووحوش النشوة أمثلة تطبيقية على وحش التمحور حول الأنا.
والترجمة الحرفية لوحوش التمحور حول الأنا هو وحوش العجرفة والتكبّر، وهذه طريقة جيدة لوصف وحوش التمحور حول الأنا لأنها تظهر على شكل شعور بمركزية الذات، وأننا مركز الكون، وأن كل شيء يتمحور حولنا، وما تحتاجه الأنا مبين بعناية ودقة فيما يعرف بالدارمات المادية الثمانية eight worldly dharmas (الآمال والمخاوف):
الحصول على ما تريد، وعدم عدم الحصول على مالا تريد
الرغبة في الحصول على السعادة الآنية، وعدم الرغبة في التعاسة
الرغبة في الشهرة، وعدم الرغبة في ألا تكون معروفا بين الناس
الرغبة في الإطراء وعدم الرغبة في اللوم
من خلال تعلقنا بالأنا، يبتلى الذهن بجميع أشكال الانفعالات العاطفية والتمسك بالأفكار وتنشأ الكارما نتيجة ما نقوم به من أفعال.
وأساس المشكلة هو التشبث بآراء واعتبارات حول النفس مقابل الآخر، دون إدراك كم مما نعتبره واقعا خارجيا هو من اسقاطاتنا، وببسيط العبارة: حيث يكون هناك تمحورا حول الذات تكون هناك وحوش والهة، وحيث لا يكون هناك تمحورا حول الذات لا يكون هناك وحوشا أو آلهة. ويمكننا رؤية وحش التمحور حول الأنا في ردود أفعالنا، عندما ننزعج من الانتقاد وننفش ريشنا من المديح، في رغبتنا في تكديس الأشياء المادية وفي شعورنا بالضيق جراء خسارة ثروة أو ممتلكات أو مراتب.
وربما نرى هذا جليا في الأطفال بعمر سنتين عندما يتمسكوا بلعبة ويصرخوا: “هذا لي!” بأعلى صوتهم، ويتضاربون بلا رحمة على الرؤوس، وبالرغم من أننا نعدّل ما نرغب به بناء على ما نحتاجه وما لانحتاجه أنفسنا، فإن ” لي، لي، لي” ما تزال داخلنا وأحيانا بقناع محكم، وأحيانا دون ذلك. الطريق الروحاني هو رحلة التخلي عن التشبث ب “لي” وفتح المجال واسعا أمام الرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين، ومنح ذلك لجميع الكائنات، ومن خلال ذلك فإننا نتحرك بعيدا وراء تشبث الأنا بنفسه.
ما السبب وراء وحش التمحور حول الأنا؟ لماذا لسنا جميعنا الكائنات المليئة بالشفقة والرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين مع علمنا بقدرتنا على ذلك؟
“بينما نقوم بتغذية الوحوش داخلنا يمكن أن نواجه أشكالا من الصد والممانعة، فعندما نتعامل مع قضايا مزمنة أو أمور مادية، قد يكون من الصعب التخلي عن المشكلة وجعلها تزول وجعل الوحش يصل إلى درجة الشبع الكامل. فقد تصبح مشاكلنا جزءا كبيرا من هويتنا حتى أننا نتعلق بها في اللاوعي أو حتى في وعينا في بعض الأحيان. وفي بعض المراحل من حياتنا قد نسأل أنفسنا “من سأكون بدون مشاكلي؟” وبالرغم من أننا قد لا نرغب في أن نعترف بذلك، فإننا نتعلق ب “أشياءنا” وقضايانا، وتصبح وكأنها شغلنا الشاغل ووظيفتنا الرسمية. وبما أن جزءا هائلا من طاقتنا محبوس في مشاعر الضحية، والإدمان أو الغضب داخلنا، أو أننا أقوم أخلاقا من الآخرين، فنصبح خائفين من الفراغ أو الفضاء الذي سينشأ بعد زوال المشكلة، وقد نتعلق بالوحوش داخلنا وقد لا نسمح لهم بأن يشبعوا بالكامل في الخطوة الرابعة، وفي حالات أخرى أكثر جدية قد نصبح مدمنين عاطفيا على طاقة الوحش، فعلى سبيل المثال قد يجد شخص ما متعة في الانفجار غضبا تجاه الآخرين أو من خلال تخويفهم. ومن أفضل الطرق في للتعامل مع هذا النوع من المقاومة داخلنا هو تخيل كيف سيبدو الوحش إذا تم اشباعه بالكامل في الخطوة الرابعة، وعادة ما أنصح بأسلوب “وكأن” في حالات المقاومة والممانعة لأنه فعّال في تجنب الميل للتمسك والتعلق بالوحش البائس داخلنا. وقد وجدت أن تخيل الصورة التي سيبدو الوحش عليها إذا تم اشباعه وبكل التفاصيل، سيمنحنا فرصة الوصول لتجربة الاسترخاء في الفضاء الواسع من الحرية والذي ستمنحه لنا الخطوة الخامسة، حتى لو أننا راوغنا الوحش بعض الشيء.
فيما يلي مثال تطبيقي من كتاب “غذي الوحوش داخلك” والذي كنت أوردت بعض المقتطفات منه، ورأيت أن تقديم مثال تطبيقي من الكتاب قد يسهل فهم هذا الأسلوب العلاجي والذي يجمع بين علم النفس الغربي (مدارس الجشتالت وكارل يونغ) والروحانيات البودية، وهي تعتمد بدرجة على التخيل والتصور الذي يسهل التعامل مع الاحاسيس والمشاعر داخلنا بأن نعطيها شكلا فيسهل التعامل معها والسيطرة عليها ومن ثم علاجها:
قصة كيت
كانت عائلة كيت صعبة للغاية وكانوا يخبرونها دائما وبشكل غير مباشر بأنها غير جديرة بالحب، وليس من المستغرب أنها بدأت تكره نفسها.، وبالرغم من أنها كبرت وتزوجت، فإن زوجها تركها في آخر الأمر، ولم يكن بإمكانها الاستمرار في أي وظيفة، فقد كانت تشعر في أعماقها بأنها غير جديرة بالحب وتصرفت بشكل مدمر للذات.
وكان صوتها الداخلي يخبرها دائما أنها ليست جيدة بما فيه الكفاية، وأنها فاشلة، وأن عليها ألا تثق بالحياة، وكان هذا وحش الكره للذات، والذي كان يعيث فسادا وبالرغم من أنها قضت فترة طويلة غير واعية بمدى تأثيره عليها، إلا أنه أفسد كل شيء، وقد أعطاها هذا الصوت نوعا من الشعور المألوف بالأمان ولكنه سلبي وسام، وفي الصفحات التالية قصة كيت وبشكل مختصر وكيف تعاملت مع وحش كره الذات.
- خطوة 1: البحث عن الوحش داخلنا (الصوت السلبي داخلنا)
بعد القيام بتنفسات الاسترخاء التسعة واستحضار نية الإيثار وإفادة جميع الكائنات مما ستقوم به من تدريب، تغمض كيت عينيها وتستغرق بوعيها داخل جسدها محاولة تحديد مشاعر النقص وكره الذات في داخلها، وتفتش في ذاكرتها عن حدث سلبي أثار فيها مشاعر كره الذات آنذاك، فبعد أن طردت من وظيفة مبشّرة بمستقبل جيد، قامت بالاتصال بأمها متأملة أن تواسيها فيما حدث لها، ولكن بدلا من أن تقدم أمها لها الدعم والمساندة، قامت بلومها على خسارة وظيفتها، وقد امتلأت كيت بمشاعر الغضب وكره الذات فجرحت ذراعيها لأول مرة. وعندما تذكرت هذا الحادث شعرت فجأة بمشاعر شديدة في قلبها، وأحست بأن هذه المشاعر كأنها باردة وزرقاء بنفسجية، مثل كسر من مرآة متصدعة، وكانت حادة ومؤلمة، وشعرت أن قلبها يؤلمها.
- خطوة 2: اجعل للوحش شخصية واسأله ماذا يحتاج
وفي هذه اللحظة تتخيل كيت أن هذه المشاعر تأخذ شكلا، وبدا الشكل الذي تخيلته ذَكرا طويلا ونحيلا، ولونه أزرق بارد، وأذرعه العظمية تنتهي بمخالب، وهو ينظر إليها بازدراء، وأسنانه حادة وصفراء، وفاغر فاه كأنه سيبتلعها، وعيناه صغيرتان وشرستان، وعندما نظرت إليه في المرة الثانية، لاحظت أن سطح جسمه مغطى بأشواك دقيقة وزرقاء.
وتسأله كيت بصوت مسموع:
” ماذا تريد مني؟
“ماذا تحتاج مني؟
” كيف ستشعر إذا حصلت على ما تحتاج؟”
- الخطوة 3: قم بدور الوحش
(يتم سؤال الوحش ٣ أسئلة ويتم تقمص شخصيته لمعرفة الإجابة والتي تسهل جدا في تحرير الطاقة السلبية والتخلص منها)
وقبل أن تنتظر كيت جوابا، قامت بتغيير مكانها وجلست على المقعد المخصص لدور الوحش، وقامت بدوره، وأخذت لحظات قبل أن تقوم بدوره وتشعر بأنها هو، وتتريث لحظة لتشعر بماذا يشعر، وقبل أن تجيب على الأسئلة، وعندما كانت تستشعر ما هي أحاسيس الوحش، وترى أنه يشعر بالحقد والضغينة، ويشعر بالتهديد، ويضرب نفسه. وكانت اجابته على السؤال الأول “ماذا تريد؟”: ” أريدك أن تعاني، لأنك بلا قيمة وغبية. ”
وأجاب على سؤال “ماذا تحتاج؟”: أريدك أن تكوني معي، وأن تكفي عن محاولة الهرب مني. أريدك أن تتقبليني وتحبيني.” وبالنسبة لسؤال كيف ستشعر إذا حصلت على ما تريد؟” كان جوابه ” سأشعر بالراحة وأشعر بالحب.”
- الخطوة 4: غذ الوحش والتقي بالحليف
وبعد أن تعود كيت إلى مقعدها الأصلي تنظر إلى وحش كره الذات الذي تخيلته أمامها، وهي تعلم الآن أن أنها تحتاج إلى أن تغذي وحش كره الذات برحيق الحب، وتتخيل جسدها يذوب في في محيط لا نهاية له من رحيق الحب وتتخيل بعدها أن الوحش يحصل على هذا الرحيق جرعة واحدة من خلال كل مسامة في جسمه ذي اللون الأزرق البارد.
وبينما يمتص الرحيق، يتغير شكله، ويصبح جسده أكثر نعومة ويزول لونه، ثم بعد ذلك يتحول إلى حصان رمادي رقيق المنخرين، وبعينين لطيفتين غامقتين.
وتسأل كيت الحصان الرمادي إذا كان هو الحليف أم لا؟ وعندما يجيب مطأطأ رأسه بنبل تسأله كيف سيساعدها في المستقبل، وكيف سيحميها وبماذا سيلتزم تجاهها. وبعد ذلك تغير مكانها مع الحليف الذي تخيلته وهو الحصان الرمادي، وتسمع نفسها تجيب، ” سوف أحملك إلى أماكن لم تزوريها في السابق، إلى حيث لا يمكنك الذهاب وحيدة، سوف أعيرك قوتي لتقومي بأشياء في هذا العالم، وعندما تشتد عليك الأمور اذهبي لرؤيتي وضعي رأسك على رقبتي، وسأحميك بأن أمنحك قوة في نفسك.”
وعندما تعود كيت لمقعدها الأصلي، تنظر بإمعان للحصان الذي تخيلته، وتتلقى ما منحها من قوة، وتقبل ما تعهد به من أجلها، وبينما تتلقى تلك الطاقة الإيجابية المتدفقة تجاهها، تشعر بسرور وابتهاج في داخل قلبها، وفي النهاية يذوب الحصان الذي تخيلته فيها ذاتها وبشكل كامل، وتشعر بموجة عارمة من القوة داخلها، ثم تذوب هي والحصان في الخُلو (بشكل مبسط جدا هو حقيقة طبيعة الوجود في الفلسفة البودية).
- الخطوة 5: الاسترخاء في الوعي الناشئ
في هذه المرحلة تشعر كيت بالسلام، وتسترخي في فضاء من الوعي المفتوح، وهي ليست بحاجة لأن تطبق الخطوة الخامسة، لأنها حاضرة في اللحظة، وهذه ليست حالة ذهنية تتخيلها كيت، بل هي حالة طبيعية من الفضاء والاتساع والتي تأتي مع زوال طاقة الوحش من وجودنا وحلول طاقة الحليف الايجابية ودمجها في ذاتنا.”
لقد قابلت فريد عندما كنت أعيش في جزيرة فاشون، بالقرب من سياتل، بعد أن كنت قد عدت من الهند في منتصف السبعينات، وكنت وقتها حاملا بابنتي البكر- شِرب، وعندها كنت بدأت اعتاد الحياة العادية بعيدا عن أرواب الرهبنة بعد سنوات قضيتها كراهبة بودية. وكنت أنا وزوجي نتمشى عبر حقول العنب، وفي مسالك قديمة للتحطيب، وعبر الغابة المطيرة ذات الأخشاب الحمراء، وأشجار السدر المعمرة نحو الشاطئ حيث يعيش فريد في مزرعة مع حبيبته. وقد كانوا يزرعوا الخضروات، ويصنعوا الفخار، وكان عندهم بقرة، وكنا نشتري منهم الحليب الطازج ثم نتسلق مرة ثانية نحو بيتنا الصغير. حيث كنا نقوم بعمل جلسات تأمل في أيام الأحد، وشيئا فشيئا ومن خلال هذا التواصل مع فريد، زاد اهتمامه بالبودية وانضم إلى مجموعتنا، على مر السنوات صرنا أصدقاء مقربين، ولكن الاتصال انقطع فيما بيننا عندما انتقلت إلى مدينة بولدر، وكذلك بعد انتقالي إلى إيطاليا، ولكن بعد عدة سنوات وفي بداية التسعينات، تمكن فريد من الحصول على معلومات التواصل بي واتصل بي.
وبعد أن دردشنا مع بعضنا البعض، دخل في صلب الموضوع: ” إنني مصاب بالإيدز، لقد تم فحصي في عام 1987 ووجدوا بأنني أحمل HIV موجب، وفي ذلك الوقت كان عدد الخلايا التائية (خلايا لمفية) عال جدا.”
وسألته: ” وما هو الوضع الطبيعي؟”
وأجاب: “إن الوضع الطبيعي بين ثمانمائة وألف ومائة وكان عددها عندي في ذلك الوقت ألف ومائة، ولكن منذ ذلك الوقت وعددها يتناقص، وقد قمت لتوي الآن بالفحص، وعددها أربعمائة وسبعة وسبعون، وهذا يعني أنني مصاب فعليا بمرض الإيدز، وأنا أشعر بالخوف في معظم الوقت، ولم أعد أقوم بالتأمل، وذهني مشتت، وحاليا أقوم بإدارة بار وأعاني من ضغط في ساعات العمل والكثير من التوتر في مكان العمل، وقد تطوعت من أجل تجربة مزدوجة التعمية (تصميم اختبار يستخدم في اختبار الأدوية ، حيث لا يعرف لا الباحث ولا المريض أي من المجموعتين هي المريضة، وأيها للمقارنة، حتى نهاية التجربة) لمستشفى لقدماء المحاربين والعسكريين في سان فرانسيسكو، وهذه التجربة تعتمد على AZT (عقار يقلل من نسبة فيروس HIV في الجسم) والبلاسيبو – أي العلاج الوهمي. وكل ثلاثة أشهر يتم فحص عينات من الدم من جسمي، ويتم إحصاء عدد الخلايا التائية، ويتم فحصي أيضا للتأكد من وجود أية أمراض متعلقة بالإيدز، وأتمنى أن أحصل على عقار AZT، لكنني لست متأكدا من ذلك، وأسوأ ما في الأمر هو الخوف، فقد رأيت موت العديد من الأصدقاء، وهي عملية مخيفة جدا، وفي كل مرة أصاب بالزكام، أقول في نفسي هل هذه هي النهاية؟ وأشعر بالقلق عندما لا أحصل على كفايتي من النوم، ولا أنجز الكثير خوفا من الشعور بالإرهاق، فعلي أن أعمل، والتوتر الناشئ عن كل ذلك يقلقني أيضا.”
وكان الخوف في نبرات صوت فريد محسوسة جدا، وكان من محض الصدفة أنني ذاهبة إلى كاليفورنيا لتعليم التشود بعد عدة أسابيع، وقد اقترحت أن يأتي معنا للمعتزل، ولم أكن أعتقد أن هذه الممارسة سوف تحدث نتائج ايجابية في مرض فتاك مثل مرض الإيدز، ولكنني كنت متأكدة جدا أنها سوف تساعد في التعامل مع حالة الخوف عنده.
وقرر فريد المجيء، وعندما التقينا في أول ليلة في المعتزل، رأيت شعره الأشقر الطويل قد أصبح قصيرا وفيه شيء من الشيب، لكنه ما يزال يحتفظ بنفس اللمعان في عينيه وحس الفكاهة، وبعد أن بدأنا بالمعتزل، بدأت بتعليم طريقة تغذية الوحوش، وقد طلب مني أن نطبق الطريقة معا، وقد وافقت وكنت أتطلع لقضاء وقت معه نظرا لانشغالي في المعتزل.
عندما جلسنا مقابل بعضنا البعض، سألته إذا كان قد تعامل مع وحش HIV بعد أم لا، ضحك فريد وأجاب: “لا، إنه كبير جدا، لا أستطيع القيام بذلك، يبدوا وكأنه في كل مكان، وأخشى أنني لن أتغلب عليه.”
وكان ردي: ” فريد، الوحوش الكبيرة داخلنا تزداد كبرا أذا لم نواجهها، وتتغلب علينا هذه الوحوش إذا لم نواجهها وليس عندما نواجهها.”
وقد شجعته على تطبيق الخطوات الخمسة مع وحش المرض، وأخيرا قرر القيام بذلك، وفيما يلي قصته كما رواها بنفسه.
” عندما وجدته في جسمي، كان في كل مكان، كان مثل الطين بلون أخضر، وكان يأكلني، وعندما وضعته أمامي، وأعطيته شكلا، كان ضخما، وكان شكله مثل الأميبا، وكان أخضرا ولكنه يصبح أكثر اصفرارا في الوسط، حيث يوجد هناك فما كبيرا، وقد كان قريبا وحيثما نظرت وجدته. وقد شعرت بالكثير من عدم الارتياح بسبب التعامل معه، والكثير من الغضب والمقاومة لوجوده في حياتي.
وعندما سألته ماذا يريد، قال: ” كل شيء بما في ذلك حياتك، أريدك كلك، لكنني أريد حياتك أنت ببطء، أريد أن أراك تغدوا نحيلا ومريضا وضعيفا حتى تهرم وتوهن، وتصبح قبيحا، وفي النهاية أريدك أن تموت.”
“وفجأة لاحظت أن الوحش يريدني أن أخافه، يريد أن يستهلكني بالخوف، وأدركت أنه يحتاج القوة التي يحصل عليها من خوفي، وكرد على ذلك قدمت له قوة على شكل جسدي، جزءا في كل مرة: قوتي، وقدرتي على الاعتناء بنفسي وعملي، ودمي وجلدي، وشعري، وبصري، وعقلي، … الخ. ومع كل جزء قدمته له، كنت أدرك أكثر أنني وعلى سبيل المثال، إذا أعطيته بصري، فإنني لست ذلك البصر. ما لذي يحدد هويتي ومن أكون؟ ومن هو فريد؟ من هذا الذي هو أنا، وفي إعطاء الوحش قوة، أدركت الخلو في هذا الجسد الذي أنا متعلق به. وفي عملية التخلي عن التعلق بذلك الجسد، حصلت على إضاءات في وعيي، خلو-وعي، وفي ذلك الوقت أصبح الوحش خافتا، وأخيرا اختفى في النهاية، وجعلني أدرك أنه أيضا خال بذاته، وفي الخطوة الأخيرة قمت بالاسترخاء في في الفضاء الشاسع الذي نشأ حيث ” لا أنا، ولا الوحش.” واستمريت في تغذية الوحش، يوميا في البداية، والآن أقوم بهذا في أغلب الوقت، وقد لاحظت أنه عندما أغذيه بشكل منتظم، فإنه يبدوا صغيرا، ولكن إذا انتظرت لفترة أطول فإنه يكبر مرة ثانية.
“وبعد سنتين ونصف من تغذية وحش ال HIV، أصبح صغيرا وهزيلا، والآن لا أشعر بالخوف عند التفكير بال HIV، ولم أعد أفكر به كل يوم، إلا عندما أقوم بتطبيق الخطوات مع وحش المرض، ولم أعد أخاف منه كثيرا، فهناك العديد من الوحوش الأخرى التي تسترعي انتباهي، ووحش ال HIV ليس الوحش الوحيد الذي يلزم التعامل معه كما كنت أتمنى في البداية.”
وبعد سنة ونصف من قيام فريد بالتردد على المستشفى من أجل اجراء الاختبارات، وجد بأنه كان يحصل طوال الفترة على الدواء الوهمي وليس عقار ال AZT، ولم يكن يحصل على مضادات فيروسية، ولم يتبع أي حمية غذائية خاصة، ولكن بعد أن بدأ بتغذية وحوش ال HIV، لاحظ الممرضون والأطباء الذين يقوموا بمراقبة التجربة الطبية بأن عدد الخلايا التائية لديه كانت تزداد وبسرعة. في أغلب الحالات، عند انخفاض عدد هذه الخلايا، فإنها تستقر عند حد معين، ومن النادر أن ترتفع مرة ثانية، ولكن هذا حدث لفريد، فقد بقي عدد هذه الخلايا ضمن المستوى المنخفض العادي كل هذه السنوات، وعندما سأله الممرضون والأطباء عما كان يفعله، أجابهم: ” مجرد شيء بسيط من التأمل.” وكان ردهم: ” أيا كان ما تقوم به، استمر في عمله!” وقد استمر فريد بذلك.
لقد رأيت كيف تساعد الخطوات الخمسة العديد من الناس في أمراض خطيرة مثل السرطان، واضطرابات الأكل، والحساسية، والآلام المزمنة، والآلام العضلية المزمنة، والقرحة وضغط الدم المرتفع، هذا على سبيل الذكر وليس الحصر للوحوش التي تعاملت معها أو التي تعامل معها الآخرون، وبعد أن غذى فريد وحش الإيدز، أصبحت كل الطاقة التي كانت محبوسة في مخاوفه من مرض الإيدز أصبحت الآن في متناول يده، فلم تعد مخاوفه تستحوذ عليه، فقد كانت من أكثر الأمور وراء اضعافه أثناء المرض، والطاقة التي كانت محبوسة وعالقة في مخاوفه من مرض الإيدز، أصبح يستخدمها الآن في ممارساته الروحانية، وفي توليد الشفقة وحب رفع المعاناة عن كل الكائنات.
وكما رأينا من قصة فريد، يمكن لعملية تغذية الوحوش أن تثمر نتائج ملموسة ومذهلة. وفي الأساليب التقليدية يعتبر تخيّل مرض الإيدز على شكل كائن، وتغذيته بإشباعه التام أمرا لا فائدة منه، لكن قصة فريد أثبتت بأن ذلك كان فعالا جدا، عادة نحارب وحش المرض، فما أن نصاب بالإنفلونزا، نبدأ بالتفكير بالأساليب الدفاعية: فيتامين سي، وعقارات تقوية جهاز المناعة، أو العلاجات القديمة. ومع أن هذه الطرق ليست سيئة، إلا أنه من الضروري فهم الرسالة من المرض وتغذيته وإيجاد الحليف فهذا يعتبر إضافة هامة للطرق الطبية والتقليدية، فيمكننا التعامل مع المرض كرسالة من الجسم، ومن خلال الخطوات الخمسة فإننا نسمح لها بالتحدث معنا.
وإذا كنا دائما نتعامل مع أعراض المرض بأن نكبتها، وألا نفهم أبدا ما يحاول المرض بأن يخبرنا، فإننا بذلك قد نضيع فرصة في في معرفة معلومات هامة يحاول الجسم أن يخبرنا بها، ويتواصل الدماغ وجهاز المناعة باستمرار مع بعضهما البعض، وغالبا من خلال نفس الممرات العصبية، وقد يفسر هذا سبب تأثير التصور والتخيل على الصحة. وعندما تفكر بذلك، فقد تدرك أن المرض الذي يجتاح أجسامنا لديه أيضا ملامح شخصية، فللبكتيريا والفيروسات خصائص وأشكال محدِّدة، والتي يمكن رؤيتها تحت المجهر، فبعض أشكال السرطان عنيفة والبعض الآخر “بطيء الحركة.”
لا تأتي الوحوش من الفراغ؛ غالبا ما نتوارثها، فوحوش العائلة تنتقل من من جيل للذي يليه، ويُعتقد أن بعض الوحوش التي تتناقل من جيل لآخر مثل الميل نحو إدمان الكحول والاكتئاب الناشئ عن اختلالات كيميائية حيوية، تحتوي على عنصر مُورث إلا أنها أيضا قد تكون سلوكا يتعلمه الفرد من والديه أو من جده أو جدته. (وتظهر دراسات مؤخرا أن الجينات يمكن أن تتأثر بعوامل عاطفية وذهنية). ونحن نعلم أن الميل نحو الإساءة الجنسية والجسدية غالبا ما ينتقل من الأب للإبن، وكذلك المخاوف ومشاكل الأكل، والغضب، والقلق، وضغوط النجاح المالي، والاكتئاب، والمثالية. وإذا لم نجعل هذه الوحوش واعية، فإننا قد نورثها لأبنائنا، وقد نعلّم أبناءنا بأن لا يقوموا بأشياء معينة، مثل الإسراف في تناول المشروب، لكن إذا قمنا بذلك أنفسنا فمن المحتمل أن يقوم أبناؤنا بذلك أيضا. وفي التبت وفي الفترة التي عاشت فيها ماتشيغ كان يدور الحديث حول الوحوش من نسب الأم والوحوش من نسب الأب، وأرى أن هذه طريقة مفيدة في التفكير في مفهوم وحوش العائلة. ما الوحوش التي أجدها في عائلة أمي وأي الوحوش جاءت من عائلة أبي؟ وأي الوحوش “نقلتها” لأبنائي؟ ومع أننا قد نكون على وعي بوجود وحش ما في أمنا، إلا أننا ربما لم نفكر فيما هو أبعد من ذلك أبدا أو بصراحة لم نفكر في الوحوش التي نقلناها للجيل التالي، أو أي الوحوش يظهرها أحفادنا (وحسب الفئة العمرية التي نحن فيها يمكننا النظر في الوحوش التي تتناقل في الجيل التالي أو في الأجيال السابقة في عائلتنا). والنظر في هذا الأمر على هذه الشاكلة يمكن أن ينطوي على قيمة عالية من حيث جلب الحب والشفقة تجاه أنفسنا واقاربنا، فعلى سبيل المثال، نبدأ نغير نظرتنا إلى ما هو أبعد من مجرد أن أمنا لم تكن هناك من أجلنا عندما نكتشف أن أمها أيضا لم يكن من الممكن الاعتماد عليها تماما. وبعد ذلك يمكن أن ندرك أننا أيضا لم نكن نحسن توفير حالة من الاستقرار لأبنائنا. وإذا تمكنا من رؤية هذه الوحوش التي تتناقل بين أجيال العائلة، يمكننا شخصيا أن نقلل من الإحساس بالذنب ونفهم الأمور ضمن سياق أكبر. وبينما ننظر في الوحوش المتوارثة في شجرة العائلة سواء من جهة الأم أو جهة الأب، فمن الأفضل أن تنظر في الوحوش التي توارثتها، ففي بعض الأحيان ومن خلال تغذية الوحوش نحصل على إضاءات
سندي أم لطفلين وتبلغ من العمر ثلاثة وأربعون عاما، وهي تعمل كمعلمة. وكان والدها مدمنا على الكحول وقد عانت هي أيضا من الإدمان. أرادت سندي أن تنشئ عائلة مثالية حيث كل شيء منظما، ولا مكان للفوضى والعشوائية كما كانت طفولتها، وقد جاءت للقيام بمعتزل بعد أن تم تشخيصها بسرطان الثدي، وقد انتهت للتو من العلاج الكيميائي.
عندما اكتشفت سندي أنها تعاني من سرطان الثدي، كانت تعلم في قرارة نفسها أنها تعاني من مشاكل في رغبة السيطرة، وقد نجحت على مر العديد من السنوات أن توهم نفسها أن بإمكانها السيطرة على حياتها، ولكنها الآن تعلم أن ذلك ليس بإمكانها، فبعض إصابتها بمرض السرطان تعلّمت أن هناك العديد من الأمور الهامة تقع خارج سيطرتها، وأن مساعيها البائسة في السيطرة على كل شيء كان مجرد خلق لتوتر سمم حياتها، وعند تطبيق الخطوات الخمسة لوحش السرطان ووحوش السيطرة الأخرى، اكتشفت سندي أن وحش السيطرة من الوحوش التي تناقلت من طرف الأب فقد كان يمارس الكثير من السيطرة. وقد أرادت أن تكون مثالية، وتوقعت ذلك من الآخرين أيضا، وكانت غير راضية عن زوجها ودائما تحاول أن تجبره بالانتباه أكثر لنفسه. وهذا خلق الكثير من التوتر لها وللآخرين من حولها.
وقررت سندي تطبيق الخطوات أولا مع وحش السيطرة بدلا من وحش المرض، وذلك لأنها كانت تشعر بأنه من الأسباب التي أدت لمرض السرطان. في الخطوة الأولى وبينما كانت تبحث في جسدها عن احساسات بذلك الوحش، شعرت بوحش الرغبة في السيطرة في منطقة الفك والتي كانت تشد عليها، وعندما تخيلت الألم في فكها، كان حادا ولونه أحمر مصفر، ولكن الشكل الذي ظهر لها في مخيلتها فجأة كان وجها مبتسما ثنائي الأبعاد. وفكرت قائلة: “لا يمكن أن يكون هذا هو، إنه مبتذل جدا”. ثم تحول إلى شكل وجه أبيها، وفجأة رأت أنها تحمل وجهه في بيديها، وفي تلك اللحظة أدركت أن والدها كان الوحش وكان أيضا التحول الذي حصل في شخصية واحدة.
وقد كانت سندي تتعارك دائما مع أبيها، وكانت هناك الكثير من القضايا العالقة بينهما، وقد أدركت أن وحش السيطرة لديه جذوره في مركب الإله الوحش: والدها، فقد كان يمثل إلها لأنها دائما تتوق إليه، وهو وحش في نفس الوقت من حيث لأنها كرهته بسبب المشاكل التي سببها لها.
وعندما سألت الوحش والذي بدا مثل والدها عما يحتاج قال لها بأنه يحتاج أن تغفر له، وأنه إذا منحته ذلك سوف يشعر بالحب. وتخيلت سندي أنها تحول جسدها إلى رحيق الشفقة من المعاناة والحب وعندما قدمت الرحيق شعرت أن المسامحة تتدفق من فكها وشعرت براحة في منطقة الفك بعد ذلك. وعندما انتهت من الخطوات، تخيلت أن والدها يذوب وتوقف الألم في فكها، وشعرت بالسلام العميق في داخلها. وقد أدركت سندي تشرب الكثير من الكحول كرد فعل للتوتر الناشئ عن مرضها، وقررت عندها أن تحصل على مساعدة للتغلب على هذه العادة في شرب الكحول. وقد التزمت بالتوقف عن الشرب، والتوقف عن التعارك مع والدها، والحصول على العلاج للتعامل مع مشاعر الغضب التي ما تزال تحملها، وقد فهمت سندي من تطبيق الخطوات الخمسة أن وحش الرغبة في السيطرة وما تحمله من غضب تجاه والدها كان وبالمعنى الحرفي للكلمة السبب وراء مرضها، وأنه من المهم أن تتوقف عن الخوض في هذه المعركة وأن كلا منهما قد وقع في فخ هذه المعركة.
تعتبر وحوش العُجب بالنفس المجموعة الثالثة ضمن تصانيف المعلمة الروحانية ماتشيغ لابدرن ( معلمة روحانية معروفة جدا في مجال الفلسفة والتدريبات الروحانية البودية وهي من التبت وعاشت في القرن الحادي عشر بعد الميلاد) للوحوش وهي تتمثل في مظهرين: التعلق بما يحققه المرء من مراتب وصيت في العالم المادي، وتضخم الأنا نتيجة ما ينجزه المرء في طريقه الروحاني. ومن المهم أن ندرك الأذى الذي تتسبب به وحوش العُجب بالنفس فهو لا يقل ضررا عن الوحوش الأكثر وضوحا سواء الخارجية أو الداخلية منها. ومن الصعب إدراكهم لأنهم مرتبطين بتجارب جميلة، وكما رأينا فإن كل نوع من أنواع الوحوش في التصانيف الأربعة للمعلمة ماتشيغ تأخذنا بعمق أكبر في أذهاننا، وكل تصنيف أدق من الذي قبله، والمجموعة الثالثة من الوحوش – وحوش العُجب بالنفس – هي دقيقة وغير ملحوظة.
ودائما ما نبحث عن تجارب تمنحنا النشوة، سواء من خلال تعاطي المخدرات أو شرب الكحول أو الأنواع الأخرى من الملذات مثل الطعام أو الجنس أو السفر، وللمفارقة يشكل التوق للحظة من التجلي أو الإشراق عائقا روحانيا، وأتذكر حضور حوار درامي منفرد للكاتب والممثل الأمريكي الراحل سبالدنغ غري، وهو مؤسس مشارك لشركة مسرح مجموعة ووستر في مدينة نيويورك، كان يصف رحلة لآسيا حيث قضى رحلته برمتها محاولا إيجاد لحظة من الإشراق والتجلي، وقد ضلله هذا طوال الوقت، وخلال الاستماع إليه أدركت كيف يدفعنا التوق والحنين لتلك اللحظة المثالية، وكيف يؤدي لنشوء الآلهة والوحوش داخلنا.
وحوش العُجب بالنفس في العالم المادي
ترتبط وحوش العجب بالنفس والغرور باحساس متضخم من الكبر حول أشياء مثل النجاح والعمل والعائلة والممتلكات. فكر في لحظات شعرت فيها بالانبهار والغرور لما لديك من ملابس أو منزل أو لمظهرك أو سيارتك أو ما تنعم به من ثراء، وهذا الوحش يرتبط أيضا بأي مهنة يُنظر إليها باحترام ويكون لك فيها سيطرة أو قوة فوق البعض، وعندما أفكر في هذا الوحش فإنني أتصور بكل مافي الكلمة من معنى شخصا ينتفخ مثل البالون. فقد يتشكل عند أرباب العمل الذين لديهم سيطرة على حياة الموظفين لديهم وحش الغرور والعجب، ويتضخم بما يحصل عليه من إطراء وصيت بسبب منصبه، وقد يحدث هذا التضخم بسبب الشهرة أو الغنى، أو كليهما حيث ينمو فيه إحساس بأهمية الذات أو أنه يحتاج معاملة خاصة، أو قد تكون هذه الوحوش أكثر دقة وغير ملحوظة مثل الشعور بالكِبر بأبنائه أو ما يتمتع به من قدرات في ما يحترفه من مهنة.
كنت قد تحدثت مع صديقتي كريستين – وهي طبيبة – حول هذا الوحش، فقالت: “نعم، هناك فترة أثناء تدريب الأطباء في المستشفى، يظهر هذا الوحش، والأطباء الذين يقومون بالتدريب يطلقون على هذه الفترة أنها (المرحلة الخطرة ) إذ يتولد لدى المتدربين شعورا بإفراط في ثقتهم وعجرفة نتيجة لقدراتهم على التشخيص”.
حدثتني كريستين عن جودي وهي مختصة أشعة معاودة وهي لامعة في مهنتها تخرجت من جامعة هارفارد للطب، كانت فخورة بقدرتها بالتشخيص من خلال صور الأشعة، وذات مرة أصدرت استنتاجها فور ملاحظتها أمرا غير عادي في صورتين للأشعة في جلسة واحدة، وبينما كانت تراجع الصور مع الطبيب المشرف، أشار أنها غفلت عن بعض الإشارات الهامة ونتيجة لذلك أخطأت تماما في التشخيص. وبعد التأمل فيما حصل، أدركت جودي أنها شعورها بالثقة الزائدة كان إنذارا تجاهلته.
وحوش العُجب بالنفس في الطريق الروحاني
في الحديث حول وحوش العُجب بالنفس، أكدت ماتشيغ على وحوش العُجب بالنفس، وهي تظهر عندما عندما نتعلق بالبشائر على الطريق الروحاني، ومثل وحوش الغرور في العالم المادي فإنها تعتبر مضللة لأنها ترتبط بتجارب إيجابية. فيمكن أن تؤدي وحوش الغرور والعجب إلى إساءة استخدام السلطة الروحانية من خلال التلاعب بالآخرين من أجل منافع خاصة.
وفي هذه المرحلة الزمنية في الزمن الحاضر الذي نعيش فيه هناك فرصة كبيرة للوعاظ و المعلمين الروحانيين باستغلال مناصبهم للسيطرة على عقول الناس وخلق عبادات مبتدعة. إذا كنت معلما أومرشدا قد تجد مغالاة في الثناء والإطراء مما تراه من تلاميذك أو المريدين حولك نتيجة لانبهارهم مما تتمتع به من خصائل روحانية. وقد تُمنح قدرا من المال أو منزلة عالية، وهذه كلها تنزع منك رداء التواضع وتؤدي إلى تضخم الأنا.
وهناك مثال متطرف على ما أسلفت حول وحوش العُجب بالنفس وهو جيم جونز – وهو شخص أمريكي مؤسس لعبادة مبتدعة انتقلت من الولايات المتحدة إلى جمهورية غيانا. وقد اعتبر جونز نفسه أنه إعادة ميلاد للمسيح ولينن، وفي عام 1978 عندما زاره أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لغاية التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان هناك، أمر جونز بقتله وقتل بعض من أفراد حزبه، ثم فرض انتحارا جماعيا حيث قضى فيه أكثر من تسعمائة شخص من أتباعه نحبهم.
وقد تتعاظم ووحوش الأنا الروحانية هذه المتضخمة في القياديين الذين يخلقوا عبادات مبتدعة، والذين يتمتعون بذكاء يتلاعبون فيه بالناس بالمخاوف والآمال. ومن أحد الطرق التي تعرف وتدرك من خلالها المعلمين أو المرشدين الذين وقعوا في فخ هذا الوحش من خلال تأكيدهم أن الخير فيهم وحدهم وبقية العالم فاسد أو شرير. ويحاول مثل هؤلاء القياديين أن يحولوا دون تواصل أتباعهم مع “العالم الخارجي” وأن يقوموا بعلاقات معه وأنهم وحدهم من يملكوا الحق في تقدير وتقييم مدى الولاء في الأتباع. وقد يعتقدوا أيضا بتبرير العنف لغايات تحقيق الرسالة التي جاؤا بها.
قد يكون كبش الفداء في عائلة فتاة أو فتى مراهق يسيء التصرف ويرفض الالتزام بقيم العائلة، وقد يتم إبعاد المراهق بعيدا أو كبته، ولايمكن أن أن تشفى العلاقات بينهما دون إدراك العائلة ضرورة مواجهة وحوشهم أنفسهم.
لدى بيل وكارين وأبنائهم جيسي وأريانا “كل شيء” مادي، لكن لم يخلو هذا النعيم من المشاكل، فقد كان جيسي مثيرا للمشاكل منذ طفولته. وقد أرسلوه إلى طبيب نفسي، وحصل على العلاج وتم إرساله إلى مدرسة خاصة، وفي الوقت الذي أصبح فيه في سن المراهقة، كان ما يزال من الصعب التعامل مع جيسي.وتم ارساله الى مدرسة عسكرية داخلية لكنه هرب منها، وكان قد تسبب بالعديد من المشاكل مع بلوغه الثامنة عشرة، وكانت شقيقته أريانا تعيش مع صديقها وتعمل في بلدة مجاورة، ولم تكن لديها الرغبة في التعامل مع أهلها ولذلك كان هناك القليل من الأماكن التي يمكن أن يلجأ اليها جيسي من أجل المساعدة.
وكانت كارين تشعر باليأس وتسعى بشدة للحصول على حل، فقد كانت تشعر أن جيسي قد دمر عائلتها، وعندما توجه كارين وبيل لعلاج نفسي للأزواج، كان المعالج مدربا في تغذية الوحوش الداخلية ، وعمل معهم المعالج لاكتشاف جذور المشكلة، وظهر من خلال العالج أن جيسي كان الابن الذي كانت تتمناه كارين بشدة، وأنها كانت تحبه جدا، لكن بالنسبة لبيل فقد كان جيسي يشكل تهديدا لعلاقته مع كارين، كان يشعر بالغيرة بسبب التعلق الشديد لكارين بجيسي، وشعر أنها كانت تتجاهله، وشعرت وأريانا أنها فقدت أمها بسبب أخيها، ولذلك كانت تكره جيسي، وشعرت كارين أنها عالقة في الوسط و بالاضطراب نتيجة لهذا الوضع، وسمحت لزوجها وابنتها التعبير بسلبية تجاه جيسي.
وكانت ردود فعله صعبة، ولذلك أصبح كبش فداء بسبب التعقيدات العاطفية غير المحلولة في العائلة، فقد كان جيسي “المشكلة” وهذا جعل الجميع يشعر بشكل أفضل، وكلما ازداد وضعه صعوبة، كلما أصبح غضب أريانا ووالدها مبررا، وقد كانت بالفعل دائرة سوء.
ومع ممارسة الوالدين لتغذية الوحوش زالت وصمة العار عن جيسي، بالنسبة لكارين كانت تتعامل مع وحش الذنب بالنسبة لبيل كان يتعامل مع وحش الغضب والخوف من الخذلان. ومن خلال هذه الممارسة اكتشف الوالدان كيف أنهما جعلا من جيسي كبش فداء وشعرا بأنهما تناولوا قضاياهم الخاصة وديناميكيات العائلة كزوجين مع المعالج. وقد استقر سلوك جيسي حيث أنه لم يعد يحمل وحوش العائلة جميعها وحده، وشيئا فشيئا بدأت العائلة بالتواصل بشكل أفضل وقويت العلاقة فيما بينهم، وعندما كان يقوم جيسي بدور كبش الفداء كان جيسي يحمل جميع وحوش العائلة على كتفيه، ومن أجل تحسين الوضع كان من الضروري أن تبدأ العائلة بالعمل مع الوحوش التي أثارها هذا الفتى المراهق فيهم، بالإضافة إلى فهم جيسي، وهذا ساعد في أن تتغير الأمور في العائلة، وهذا الأمر ينطبق على أي عائلة تم فيها تحديد “وحش” ما.
وحوش أماكن العمل
غالبا ما تنشأ الوحوش في الشركات والمنظمات إبان تأسيسها، وبعد خمس عشرة سنة نجد أنهم ما يزالوا يعانون من نفس المشاكل. وعلى سبيل المثال إذا كانت هناك شركة تعاني من وحش الخوف، فإن ذلك يخلق نظاما حيث يخشى الناس من عمل قرارات، ويخشى فيه الموظفون من تقديم تغذية راجعة لمدرائهم، ويخشون أن ترفع فيهم التقارير لأدنى أشكال التقصير، ويمكن أن يكون من المفيد للموظفين التفكير بشكل جماعي في الوحوش الموجودة في مكان العمل تصفية النوايا والمشاعر تجاه بعضهم البعض.
وغالبا ما يبث مؤسس أو مدير المؤسسة أو المنظمة وحوشه داخل منظمته أو مؤسسته، ومن الصعب التخلص من هذه الوحوش ولذلك من المهم للمدراء والملاك أن يتعاملوا مع وحوشهم والتشارك والانخراط في بيئات العمل.
كانت شيري تعمل في منتجع يقدم علاجات لمشاكل التوتر بجودة عالية، و للمفارقة كانت بيئة العمل في هذا المنتجع ذات توتر عالي، لأن ملاك المنتجع كانوا في استمرار في حالة قلق وتوتر، واقترحت شيري في أحد الاجتماعات النظر في وحوش المنظمة وقبل الملاك على إحضار مستشار مدرب على التعامل مع وحوش المؤسسات والمنظمات للقيام بورشة عمل مدة يوم كامل. وكان ملاك المنتجع على وعي بأن التوتر كان حاضرا في الشركة منذ تأسيسها وأن لديهم الدافعية للقيام بالتغيير. وأثناء الورشة عمل كل من المدراء والموظفين على ما لديهم من وحوش خارجية كل على حدة، وأدار الجلسة مسهل للجلسة عمل خلال الخطوات الخمسة في تغذية الوحوش، وعندما عادوا للعمل كمجموعة واحدة وقارنوا ما وجدوه من وحوش وحلفاء.
وتعالت الضحكات، وتمكن الجميع من الحديث حول الأمور الصعبة، واستمع الجميع لاحتياجات الوحوش واقتراحات الحلفاء، ثم كتبت المجموعة ككل مقترحات لتحسين بيئة العمل في المنظمة على خارطة تدفق. وفي نهاية ورشة العمل، استخدم مسهل التدريب الملاحظات لمساعدة الملاك في خلق خطة عمل لتغذية وحوش الشركة.
وبعد ثلاثة أشهر عقدت الشركة اجتماعا لمناقشة إذا ما حدث تغيير في وحوش الشركة وكيف تم ذلك، وإذا ما تم اتباع مقترحات الحلفاء، ولأول مرة في تاريخ الشركة منذ خمس عشرة سنة تمكن ملاك المنتجع من التعبير عن مشاعرهم بالتوتر، وشعر عندها الموظفون باختلاف كبير.
عند النظر للوحوش الجمعية في المنظمات والمؤسسات التي نعمل فيها بالإضافة لوعينا بكبش الفداء يمنحنا إضاءات حول الديناميكيات الأساسية المسؤلة عن الصراع في هذه المجموعات.
إذا نظرنا إلى قضية الوحوش الجمعية على مستوى أكبر، فإننا نرى أسطورة البطل الغربي جلية جدا في عالم السياسة اليوم، ففي الوضع السياسي للعالم، أثبت ممارسات إعلان الحرب على الإرهاب أنها عقيمة وغير مجدية، فعندما نقتل ارهابيا واحدا نخلق عشرة من الإرهابيين مكانه، والآن يواجه الأمريكيون خطرا أكبر من الهجمات الإرهابية من السابق قبل شن الحرب على العراق، والتي كان من المفترض أن تجعلنا أكثر أمانا، فنحن مثل هرقل الذي قطع أحد رؤوس الهيدرا ليجد المزيد من الرؤوس مكانه.
ولن نحقق ما نرغب فيه كأمة: أن نساعد الآخرين في أن يصبحوا أحرارا وأن نجعل العالم أكثر أمانا، إلا إذا وجدنا طريقا فعالا في في حل النزاعات. فنحن نعلم أننا نرغب بالسلام على المستويين الشخصي والجمعي، لكننا لا نعلم كيف السبيل إلى تلك الغاية، وتقدم لنا تعاليم ماتشيغ لابدرن تغييرا جذريا في استراتيجياتنا.
وقد يتحول الوحش الجمعي إلى قوة هائجة، حيث يتصرف الأفراد كخلايا في جسم الوحش، فيتولى الوحش السيطرة وينساق الأفراد وراءه، وربما لا يدرك هؤلاء الأفراد حتى كيف أنهم ساعدوا في خلق الوحش، وكما يؤكد التاريخ ويشدّد وكذلك الحياة المعاصرة وبشكل مأساوي على أن الوحوش الجمعية يمكن أن تؤدي لأعمال الإبادة الجماعية وأمور مروعة أخرى لا يمكن حتى تصورها في حياتنا العادية، ولو أخذ كل فرد على عاتقه مسؤولية التعامل مع وحوشه، لتم التخلص من مصادر الوحوش الجمعية والفظائع مثل الهولوكوست وأعمال الإبادة الجماعية في رواندا والصرب ودارفور من جذورها. وعندما يتم تغذية الوحوش السياسية، يكون الأثر الاجتماعي كبيرا.
ومن الأمثلة الملفتة في ذلك قصة القائد الأفريقي اميلكار كابرال في حركة التحرير في غينيا بيساو في السبعينات قلم يعذب سجناءه البرتغاليين، وعاملهم بانسانية، وتحدث اليهم كثيرا حول ضرورة استقلال غينيا بيساو من سيطرة البرتغال، فهو لم ينظر للمعارضة على أنهم وحوش بل تواصل مع المستوطنين البرتغال وللمواطنين البرتغاليين في البرتغال، وهو بذلك قام بنفس ما عمله غاندي تجاه المسؤول البريطاني الذي جاءه مهددا بسجنه.
وقد أصبح الأسرى البرتغاليين حلفاء للغاية التي يناضل كابرال من أجلها بعد فك أسرهم وساعدوه في ثورته. ومع أن الثورة لم تكن سلمية إلا أن الأساليب التي اتبعها كابرال ألهمت أساليب إنسانية تجاه الأسرى أثناء الصراع، وهذا أمر يمكن تعلم الدروس منه في يومنا هذا، وفي الواقع قام بعض الجنود البرتغاليين الذين تلقوا تلك المعاملة الحسنة بعد عودتهم للبرتغال بتطبيق ذلك الأسلوب في الثورة السلمية في البرتغال عام 1974 والتي يطلق عليها ثورة القرنفل.
وبعد نهاية العزل العنصري في جمهورية جنوب أفريقيا قامت لجنة الحقيقة والمصالحة باستخدام عناصر من خطوات ممارسة الوحوش، فكان بإمكان مرتكبي الجرائم من كلا الجانبين أن يقوموا بتقديم التماس للجنة العفو وهي لجنة قانونية من المحترفين والتي قامت بالتحقيق معهم حول جرائمهم، وكان المتطلب الأساسي من طالبي العفو هو الإدلاء والإفصاح عن جرائمهم، وأن تبث شهاداتهم على شاشات التلفاز، واذا تم الحكم بأنهم قاموا باعتراف كامل وأنهم نادمون على ما فعلوا يتم عندها منحهم العفو.
وبعد ذلك كان بعض مرتكبي الجرائم من أولئك وبناء على رغبتهم الخاصة الالتقاء بالضحايا أو بعائلاتهم، للقيام بالإصلاح والاعتراف بالمعاناة التي تسببوا بها. وهذا أسلوب ثوري في تجنب حمام الدم الذي يأتي عادة بعد التغيير السياسي الذي يلي أجيالا من الظلم الغاشم، وبدلا من تحويل مرتكبي الجرائم إلى وحوش والاستمرار في في دائرة العنف، طرحت لجنة الحقيقة والمصالحة شهادات بالشفقة والرغبة في رفع المعاناة، كبديل جذري للثأر.
وبينما ننظر في التحديات أمام فهم الوحوش الجمعية، وكيف تعمل، من المهم أن نعلم أن الطريقة الوحيدة لوقف الوحوش الجمعية تكون من خلال وعينا بوحوشنا نحن، فإذا قمنا بما يلزم فإن هناك احتمالا أقل بأن ننساق وراء الوحش الجمعي بداية، يصبح المستوى الشخصي كونيا.
ويتناول معظم الارث الروحي والثقافي القوى الوحشية أو الأعداء من باب الحاجة للحماية. لكنني اقترحت في صفحات هذا الكتاب أن أنه من خلال تحويل انتباهنا نحو الداخل نحو الذنب الحقيقي – التمحور حول الأنا – تصبح الحاجة أقل لحماية النفس من الشر، فبدل من التضرع للحماية، قم بمنح الشفقة والرغبة برفع المعاناة عن جميع الكائنات، فعندها حتى أعتى الوحوش يصبحوا حلفاء لك، وهذا التحول الأساسي هو ما يمكن أن يؤدي للسلام العالمي.
ولا تنخدع بأن تظن بأن الوحوش هي شيء خارجي، فنحن نرى ذهننا وقد أسقط بألوان حية في كل ما حولنا، وينبغي أن تدرب نفسك على هذا النحو، وأن تولد الحب والشفقة تجاه أي وحوش تظهر – داخلك أو خارجك. وعندما تدرك في النهاية ومن تجربتك الخاصة أنه لا حاجة لتلبية اهتمامات الأنا، وأنك لم تعد تحتاج لأن تتشبث بامالك ومخاوفك أو الهتك ووحوشك، وسترى بأن مصادر الألم سببها التمسك بالأنا، وسوف تسترخي في المدى اللامتناهي من الوعي – بيتك الحقيقي. وستكون حرا.
ومن خلال تغيير وجهة نظر عالمنا والتي تنادي الهجوم على الأعداء وحماية أراضينا كما فعل هرقل إلى المناداة بتغذية وحوشنا، فعندها نتعلم أن نبقي على الحوار مع الأعداء ونبحث عن حلول سلمية، وكان هذا المسار الذي اختارته ماتشيغ وغاندي وكابرال. وهكذا نبدأ ثورة هادئة، و عندما نستوحي مما ألهمته تعاليم اليوغيني ماتشيغ من القرن الحادي عشر، بإمكاننا أن نغير العالم.
ربما أن كل الأشياء المخيفة داخلنا – وفي أعمق أشكالها – هي أشياء لا حول لها ولا قوة وترجوا منا المساعدة.
رينر ماريا رلك Rainer Maria Rilke
يعتبر الإدمان واحدا من أكثر الوحوش شيوعا في العالم، ويعني الإدمان أن تستسلم بإفراط لشيء ما، وبالتالي فإنه لا يمكن السيطرة عليها، وهي محاولات مضللة لتغذية الوحوش داخلنا. ووراء كل شكل من أشكال الإدمان جوع يبحث عن غذاء للروح.
عندما نعيش تجربة وحوش الإدمان من الضروري أن ندرك أن المواد المخدرة ليست وحوشا بحد ذاتها، فالوحوش هي تعلقنا وتمسكنا بهذه المواد، فمنشأ هذه الوحوش هو أذهاننا والتي تتعلق بأشياء خارجية. وعلى سبيل المثال الكحول والتي ليست وحشا بحد ذاتها بل الحاجة الداخلية هي التي أدت إلى الإدمان، ومجرد الابتعاد عن تلك المواد أو السلوكيات لن يغير مجرى الأمور إلا إذا كنا مستعدين للتعامل مع وحوشنا الداخلية.
هل قمت في أحد المرات التي تتبع فيها أحد الحميات بأن تبحث حتى في القمامة عن تلك الكعكة أو قطعة الشوكولاتة التي تخلصت منها كشكل من نكران الذات؟ أظهرت لوسيا الرغبة في ترك التدخين، وقررت أن تفصل نفسها عن السجائر. كانت تعيش في الريف، وقد تخلصت من كل ما لديها من سجائر ثم أعطت صديقها سيارتها حتى تمنع نفسها من الخروج وشراء السجائر، وقد لزمت بيتها مدة أسبوع، وكانت تشتهي السجائر بشدة لكن ليس للتدخين. وفي اللحظة التي استعادت سيارتها، توجهت لأقرب محطة بنزين واشترت علبة سجائر، ولكن حتى تتمكن من ترك التدخين، كان يلزمها أن تحرر نفسها من الوحش الذي تسبب في في إدمانها على الدخان وليس مجرد إبعاد نفسها عن السجائر.
هناك بعض الأشكال الواضحة من الإدمان، لكن بعضها الآخر دقيق ولا يمكن ملاحظته، وهذا يجعل من الصعوبة إدراكها وملاحظتها، ومن أحد الطرق التي تحدد من خلالها أن لديك إدمانا ما أن تلاحظ إذا ما كانت حياتك متمحورة حول مادة ما حيث تخزنها وتحتفظ بها. واسأل نفسك أيضا إذا ما كانت علاقتك مع هذه المادة مدمرة لعلاقتك الشخصية وحياتك العملية أم لا. ومن أشكال الإدمان الواضحة الأكثر وضوحا هو الإدمان على الأكل، وإدمان المخدرات، والوصفات الدوائية، والكحول، والمخدرات، والدخان، أو إلحاق الأذى بالذات، وهناك أشكال من الإدمان خفية وأكثر دقة وأقل وضوحا مثل الوصول للمثالية، وإدمان الجنس والصور الخليعة، والتسوق والإسراف، والمقامرة، والانترنت وإدمان العمل وإدمان التمارين الرياضية. فبعض هذه الأشكال قد تكون جسدية بينما البعض الآخر نفسي.
والإدمان غالبا ما يكون أمرا معقدا، وبالتالي فإن وضع حد لشكل من أشكال الإدمان في حياتك لا يضمن عادة التخلص من وجود الإدمان في حياتك، فقد تتوقف عن شرب الكحول مثلا لكن قد تصبح مدمنا على عقاقير الوصفات الطبية، لأن السبب الأساسي وراء الإدمان لم يتم تناوله بعد، والإقلاع عن المشروب هو بداية الشفاء لكن ذلك يترك وحش الإدمان يتضور جوعا، والذي سيظهر ثانية ليجد شيئا يتغذى عليه بطريقة أخرى. فما أن نتخلص من الوحش الخارجي حتى ينكشف الوحش الداخلي. ولكن الوحش الداخلي عادة ما يتشبث بمادة أخرى حتى يتعامل مع وضعه البائس الذي لم يجد حلا بعد. فعلينا أن نجد السبب الجذري للإدمان وتغذية الوحش بدلا من مجرد استبدال شكل من أشكال الإدمان بشكل آخر.
ومثل أي وحش آخر فإن وحش الإدمان يحصل على قوته عندما نحاول كبته، فإنك تتوقف لفترة، وهذا يخلق ضغطا نتيجة للإدمان الذي تم كبته، حتى ينفجر في مزيد من الانغماس والإسراف وهذا في العادة يكون أسوأ من السلوك الذي سبقه، ويخلو هذه المشهد من التوازن، فاللعبة هنا إما الحصول على كل شيء أو لا شيء، ويبدأ الإسراف بصوت هادئ في داخلك ومعارض للكبت، القليل من البوظة، والذي يصرّ على أنك تستحق أكثر من كأس واحد، أكثر من سيجارة واحدة، بغض النظر عن المادة أو السلوك الإدماني، وبعدها تحصل على سيجارة أو كأس وينفجر بعدها سد الشهوة، وتريد المزيد والمزيد، وإذا لم تجده يغضب وحش الإدمان، وما إن تعترف وبصدق بوحش الإدمان وتقول له: “حسنا، سوف انتبه لك، أخبرني ماذا تحتاج،” وعندها تبدأ رحلة الشفاء الحقيقي.
عندما كان يعيش ميلاربا وهو اليوغي العظيم من التبت، في كهف في معتزل طويل، حاولت وحش أنثى أن تختبر ما وصل اليه من إدراك، وقد حصلت على دعم من وحوش آخرين وفي أحد الليالي وفي منتصف الليل هجموا عليه بكل قوتهم، في البداية شعر بالخوف ونادى معلمه، والكائنات العليا والحماة، وهذا جعل الوحش الأنثى تشعر بالسعادة لأن ذلك كان دليلا على أنه لم يصل للإدراك بعد، وكثفت الوحوش من حدة هجومهم على ميلاربا.
وفجأة تذكر ميلاربا التعاليم التي تلقاها من معلمه ماربا Marpa حول طبيعة الذهن، تعاليم حول طبيعة الخلو المتأصلة للنفس والظواهر، وتذكر بأن قوة الوحوش تعتمد فقط على التشبث بالأنا، وما أن تذكر هذا حتى غير موقفه تماما وقدم جسده للوحوش بنفس الطريقة التي قامت بها المعلمة ماتشيغ مع الناغا الذين قاموا بمهاجمتها، وفورا غيرت الوحش الأنثى وجميع من لتم حولها من وحوش موقفهم، وتعهدوا بحمايته وحماية أتباعه، وقد نصحته بأنه كلما تشتت ذهنه ينبغي عليه التأمل حول جوهر الذهن وطبيعته الحقيقية وأن لا يقع في فخ التشبث بالأنا.وقد كان تشبثه بنفسه ما أثار فيه مشاعر الخوف ولذلك أظهرت له الوحش الأنثى أنه من الضروري فهم وحش التشبث بالأنا من أجل الوصول للفهم الحقيقي لطبيعة الوحوش.
ومن خلال لقائنا بوحش التمحور حول الأنا نصل في النهاية إلى أعمق الوحوش وأكثرها مركزية، وعندما سمعت لأول مرة حول الطريقة التي تصنف فيها ماتشيغ الوحوش إلى أربع مجموعات، بدى لي وكأنها كانت في الترتيب الخطأ، وأن وحش التمحور حول الأنا يأتي بداية، وليس اخرا، لكنني رأيت بعد ذلك أن فهم الوحوش الثلاثة الأخرى هو ما يجعلنا نفهم الوحش الرابع.
سوف تلاحظ عزيزي القارئ أنني لم أخصص أمثلة منفصلة حول وحش التمحور حول الأنا في هذا الفصل، لأنه ليس في الواقع وحش منفصل فهو مصدر الوحوش الثلاثة الأخرى، وتعتبر جميع الوحوش الخارجية والداخلية ووحوش النشوة أمثلة تطبيقية على وحش التمحور حول الأنا.
والترجمة الحرفية لوحوش التمحور حول الأنا هو وحوش العجرفة والتكبّر، وهذه طريقة جيدة لوصف وحوش التمحور حول الأنا لأنها تظهر على شكل شعور بمركزية الذات، وأننا مركز الكون، وأن كل شيء يتمحور حولنا، وما تحتاجه الأنا مبين بعناية ودقة فيما يعرف بالدارمات المادية الثمانية eight worldly dharmas (الآمال والمخاوف):
الحصول على ما تريد، وعدم عدم الحصول على مالا تريد
الرغبة في الحصول على السعادة الآنية، وعدم الرغبة في التعاسة
الرغبة في الشهرة، وعدم الرغبة في ألا تكون معروفا بين الناس
الرغبة في الإطراء وعدم الرغبة في اللوم
من خلال تعلقنا بالأنا، يبتلى الذهن بجميع أشكال الانفعالات العاطفية والتمسك بالأفكار وتنشأ الكارما نتيجة ما نقوم به من أفعال.
وأساس المشكلة هو التشبث بآراء واعتبارات حول النفس مقابل الآخر، دون إدراك كم مما نعتبره واقعا خارجيا هو من اسقاطاتنا، وببسيط العبارة: حيث يكون هناك تمحورا حول الذات تكون هناك وحوش والهة، وحيث لا يكون هناك تمحورا حول الذات لا يكون هناك وحوشا أو آلهة. ويمكننا رؤية وحش التمحور حول الأنا في ردود أفعالنا، عندما ننزعج من الانتقاد وننفش ريشنا من المديح، في رغبتنا في تكديس الأشياء المادية وفي شعورنا بالضيق جراء خسارة ثروة أو ممتلكات أو مراتب.
وربما نرى هذا جليا في الأطفال بعمر سنتين عندما يتمسكوا بلعبة ويصرخوا: “هذا لي!” بأعلى صوتهم، ويتضاربون بلا رحمة على الرؤوس، وبالرغم من أننا نعدّل ما نرغب به بناء على ما نحتاجه وما لانحتاجه أنفسنا، فإن ” لي، لي، لي” ما تزال داخلنا وأحيانا بقناع محكم، وأحيانا دون ذلك. الطريق الروحاني هو رحلة التخلي عن التشبث ب “لي” وفتح المجال واسعا أمام الرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين، ومنح ذلك لجميع الكائنات، ومن خلال ذلك فإننا نتحرك بعيدا وراء تشبث الأنا بنفسه.
ما السبب وراء وحش التمحور حول الأنا؟ لماذا لسنا جميعنا الكائنات المليئة بالشفقة والرغبة في رفع المعاناة عن الآخرين مع علمنا بقدرتنا على ذلك؟
“يبدو أن الوحوش داخلنا لديها الكثير لتقدمه لنا، ولسبب بسيط، فهي تمثل نداء لليقظة. فعندما نعاني من نوبات من الغضب والقلق، أو التوتر، وبدلا من أن ننظر إليها على أنها أشياء ينبغي كبتها أو محاربتها أو الخجل منها، من الأفضل النظر إليها على أنها وحش في داخلنا يستدعي الانتباه له.
عندما جاءت أندريا للتطوع في معتزل تارا ماندالا وهي معلمة في الثلاثين من عمرها، لم تسر الأمور بالنسبة لها على ما يرام، فأخشاب الموقد كانت مبلولة، والمدخنة مسدودة، وكانت حجرتها ملأى بأمتعتها، وذهنها مشوش جدا حتى أنها لم تتمكن من الجلوس لممارسة التأمل، وكانت مؤخرا قد انفصلت عن صديقها بعد علاقة استمرت عشر سنوات. وفجأة بدأت تشعر باشتياق شديد له وبدأت تثير تساؤلات في نفسها إن كان الانفصال أمرا صائبا أم لا.
وجاءت إلي وقالت أنها تشعر أن العالم يتآمر ضدها، وكانت ترغب بشدة بترتيب أمورها حتى تبدأ فعليا بالتأمل. وظنت أندريا أنه بمجرد الجلوس بهدوء وسلام على وسادة التأمل ستبدأ بالممارسات الروحانية التي جاءت من أجلها، وقد شجعتها ألا ترى الأمور الخارجية على أنها الوحش الحقيقي، وأن الهيجان في داخلها هو بمثابة نداء لليقظة – هدية لها. وبدأت أندريا بإدراك هذه العوائق على أنها عبارة عن آمالها ومخاوفها، وليست قوى خارجية تبغي اضعافها وإحباطها. وقد اقترحت عليها أن اشتياقها وحزنها الشديد واحباطها ليست عوائق ناشئة من الوحوش داخلها لتعيق ممارساتها الروحانية، بل دعوة لتطبيق ما تتعلمه على ما يحدث فعليا في الواقع، بدلا مما تظن أنه يجب أن يحدث، وأرشدتها خلال تغذية الوحوش داخلها وعلمتها كيف تقوم بذلك بالاعتماد على نفسها.
وبعد أن غذّت أندريا وحوشها بنفسها، تمكنت من تغيير الطريقة التي تنظر فيها إلى الوضع الذي هي فيه. وبدلا من أن تنظر إلى الأحداث على أنها تتآمر عليها، رأت في هذه التحديات على أنها دعوة لها، وبهذه الطريقة، تحولت تحدياتها إلى أعوان لها وحلفاء في تطورها الروحاني، واستطاعت أن تدرك كم كانت عالقة في لوم العالم الخارجي على حالتها النفسية الداخلية. ونحاول جميعا أن نعتقد أن ممارساتنا الروحانية يجب أن تتسم بالسلام والهدوء، لكن غالبا ما تكون أكثر اللحظات شدة وإهانة عبارة عن أقوى تجارب اليقظة والتنوير.”
في اللحظة التي سمعت فيها أول قصة حب
بدأت أبحث عنك، دون علمي
كم من الجهل في ذلك.
فالأحباب لا يلتقوا أخيرا في مكان ما
هم في داخل بعضهم البعض منذ البدء.
- رومي (12073 -1207)
تعتبر العلاقات ميدانا حيويا حيث الوحوش النائمة تستيقظ وتجد ما يشغلها، فقد تظن أنك قد انتهيت من وحش معين، لكن ما إن تدخل في علاقة حب حتى يعود الوحش ويعيث فسادا، فعندما نقع بالحب، فإن بعضا من دروعنا ووسائلنا الدفاعية قد تسقط منا ونفتح قلوبنا، ونبدو ضعفاء، ونشجع الوحوش داخلنا على أن تطفو على السطح. ويتطلب الحب الضعف والذي يهدد الـ أنا، ولذلك تظهر الوحوش حتى تحمي الأنا والغيرة وعدم الأمان والسيطرة؛ وكذلك قد يظهر الخوف والاعتماد العاطفي والنفسي على الشريك، كل تلك الأشياء قد تظهر.
يمكن أن يعود علينا الدخول في علاقة حب أو العيش مع الآخرين بمنافع كثيرة حيث أننا نرى أشياء في أنفسنا لم نكن لنراها دون تلك العلاقات، وكما قالت ماري لويز فون فرانز Marrie-Louise von Franz وهي معالجة نفسية من أتباع المدرسة النفسية التحليلية لكارل يونغ: “إذا عاش المرء وحيدا، سيكون من الصعب عمليا أن أن يرى ظلال النفس المخفية، فلا يوجد شخص آخر ليظهر لك كيف تبدوا من الخارج، فلابد من وجود مشاهد.”
لقد أظهرت سابقا كيف أن وحوش المرض تبحث عن مستقبلات متوفرة داخل أجسامنا، وبنفس الشكل فإن وحوش العلاقة قد تنجذب لمستقبلات عاطفية محددة، فإننا نجد وباللاوعي رابطا بيننا وبين الشخص الذي نختاره لأن يكون حبيبنا، ولدينا قدرة مدهشة على أن نجد أحباء لنا ممن لديهم وحوش مكمّلة لما لدينا، تماما مثلما نجد المفتاح المناسب لقفل الباب، وقد نقول لقد “شبكنا بين الوحوش” بدلا من “وقعنا في الحب.”
يمكنك اكتشاف الكثير عن وحوشك الخارجية من خلال النظر فيمن اخترت ليكون حبيبك وفي طبيعة القضايا التي تنشأ في هذه العلاقة، وليس هناك من مكان نرى فيه اسقاطات الآلهة والوحوش بوضوح مثل ما هنا. وغالبا نرى الإله في بداية العلاقة عندما نقع في الحب، ونشعر بالحنين، وأفكار التعلق والهوس، أو التصورات الرومانسية، ولاحقا تظهر الوحوش.
وقد تكون الوحوش التي تظهر في العلاقة الرومانسية، إما خوفا من الاعتماد على الشريك أو القمع. وقد تعكس جروحا قديمة، فإذا كنا قد عانينا من التعرض للإساءة أو التقليل من قيمة الذات فقد نجد أنفسنا في “علاقة حب” مع شخص لا يظهر الاحترام لنا، وإذا تعرضنا في السابق للخذلان والهجران، قد نختار حبيبا يكون زير نساء، وفقط عندما نسلط الضوء على هذه الوحوش والآلهة فإنها تتوقف عن الظهور في الأشخاص الذين نختارهم أحباء وشركاء لنا.
كان يظهر أن كيت وكارل شريكان مثاليان، ثم ما لبثوا أن اشتبكت وحوشهم، لقد التقوا في حفلة زفاف صديق، وقد كان كارل محاميا في الخامسة والثلاثين من عمره، وكانت كيت خريجة دراسات عليا في مجال الأعمال وهي في الثامنة والعشرين من عمرها وهي من عائلة فوضوية ولذلك كانت كيت تبحث عن الاستقرار، وبالنسبة لكارل تخلت أمه عنه عندما كان في الثانية عشرة من عمره، وتركته لأبيه وزوجة أبيه ليربيانه. في البداية كان يبدو كارل قويا وكان يوفر الحماية لكيت، ولذلك شعرت كيت بالأمان والرعاية وهذا ما كانت تتمناه دائما.
وبعد ستة أشهر بدا وكأن ما كان يمنحه كارل من مشاعر الأمان والحماية تحول إلى رغبة في السيطرة، ولم يكن يريدها أن تلتقي بأصدقائها أو أن تتردد على نادي الكتاب. وشعرت كيت بالكبت وبدأت تحن للحرية، وكان كارل يعاني من مركب الإله – الوحش بناء على تاريخ عائلته، ونظرا لخوفه من أن يفقد كيت، وقد راودته مخاوف غير منطقية من الخذلان. وعندما أظهرت كيت رغبتها بالاستقلالية، ظهر وحش الخذلان لدى كارل وأراد أن يسيطر أكثر عليها، وهذا زاد من شدة رغبتها في الهروب.
وعندما يقوم شريكين معا بتطبيق الخطوات على مركب الإله – الوحش فإن ذلك يخلق مساحة بين الاسقاطات والأفكار التي يحملها أحد الشريكين وتأخذ حجمها الحقيقي. وقد ذهب كل من كارل وكيت إلى مختص بالعلاقات بين الشركاء والأزواج وعلى دراية بطريقة تغذية الوحوش، وقد ناقشوا مشاكلهم في جلسة مشتركة ثم التقى مع كل واحد منهم على حدة في تطبيق الخطوات الخمس. ولدى عودتهما للمنزل تشاركوا بما تعلّموه، وكيف أن وحوشهم متشابكة بعضها البعض، ومن خلال مواجهة وحوشهم، تمكنوا من التخلص من بعض الضغط عن كاهل علاقتهم، ومع شعور كارل بالارتياح شيئا فشيئا، زاد شعور كيت بحرية أكثر. وتعلموا كيف يستخدموا حلفائهم وأصبحوا يدركون بسرعة متى تظهر وحوشهم ومتى كانت تأتي وتعلموا تغذيتها، وشيئا فشيئا نشأ بينهما شعورا حقيقيا من الحميمية التي تتسم بالهدوء فيما بينهما.
إذا كان لدينا مشكلة في العثور على علاقات والحفاظ عليها، فإن هذه إشارة واضحة أننا بحاجة لأن نبحث عن الوحوش المتسببة في ذلك. وعلى سبيل المثال، فقد تقول امرأة بأنها ترغب في الزواج وإنجاب الأولاد، لكن قد يكون لديها وحش الخوف من فقدان استقلاليتها، وينتهي بها الأمر أن تختار رجالا ممن لديهم وحوش عدم الالتزام.
تتمتع كوني بوظيفة ناجحة حيث تدير برامج تتعلق بالبرّية، عند دخولها في الثلاثينات، أصبح لديها رغبة وشوقا شديدا لأن ترتبط بشريك وتنجب أطفالا، ونشأ عندها مركب إله – وحش، وقد كان لديها حنين كبير في أن ترتبط، ولكن تشكلت لديها قناعة كبيرة أنها لن تلتق بأحد، وكانت أمها قد تخلت عن وظيفتها في السابق كي تنجب أطفالها، وقد كانت تشعر دائما بالغضب والنقمة لأنه توجب عليها البقاء في البيت لترعى أبناءها. وفي اللاشعور كانت كوني خائفة من أن يحصل لها ما حدث مع أمها، ولذلك كانت تجد نفسها دائما مع شركاء يتخلوا عنها عند أول احتمالية بعلاقة طويلة المدى.
وأدركت كوني في النهاية أنه ربما أن هناك شيئا يمكن أن تفعله حيال عدم قدرتها على أن تحظى بعلاقة قائمة على الالتزام. ثم قررت أن تحاول أن تغذي وحوشها، وبعد أن غذت إله – وحش الحنين والخوف، من خلال تطبيق الخطوات الخمسة، تحول إلى غزال صغير ذكّرها بالجانب الضعيف واللطيف لديها، وقد أدركت أن هذا الغزال يعبّرعن إمكانية حفاظها على قوتها وإظهار الضعف والتقرب وهو ما يميز العلاقات. وبعد لقائها بهذا الحليف، وجدت نحتا لغزال واحتفظت به في مكتبها كتذكار لما تعلمته.
وفي هذه الأيام، أصبحت كُوني أكثر انفتاحا للرجال المتوفرين عاطفيا، تاركة وراءها الميل لعمل علاقات مع رجال متزوجين أو غير متوفرين عاطفيا، وقد قابلت مؤخرا رجلا يبحث فعليا وبوعي على علاقة مستمرة ويشاركها في حبها للحياة البرية، وهما الآن يعملان على تطوير علاقة واعدة فيما بينهما ولم تعد مخاوف كوني تراودها بأنها ستعيش نفس تجربة أمها.
ومن الأنواع الأخرى لوحوش الحب بأن نعطي الكثير من “الحب” لأحباء لا يمكن الاعتماد عليهم. شارون محامية في السادسة والأربعين من عمرها، تربت بعيدا عن والدها، وعندما كانت طفلة، كانت أمها تعمل طوال اليوم، وتولت جدتها رعايتها والتي أحسنت لها وعاملتها بلطف. وحيث أن أمها لم يكن لها شريك، فقد أصبحت شارون مصدرا للدعم العاطفي بالنسبة لأمها، وقد جعلت من احتياجاتها أمرا ثانويا بعد احتياجات أمها، وكبرت شارون وهي تشعر بسيطرة أمها عليها بدلا من الحب والتقدير لذاتها، وعندما أصبحت شابة، استقلت لتعيش حياتها الخاصة بها، وكانت تتردد في الارتباط مع أي أحد خشية فقدان ما تنعم به من استقلالية، وبعد سنوات وجدت نفسها تتساءل لماذا لم تنجح في علاقاتها مع أنها تحن لذلك. وحيث أن شارون كانت مثلية فإنها كانت تميل لعمل علاقات مع فتيات غير مثليات، وبالتالي لم يكنّ متوفرات لها. وكانت تستثمر كثيرا في العلاقة ولكنها كانت تشعر في النهاية بالخذلان.
وعندما أصبحت شارون على وعي بميلها للدخول في علاقات تقدم فيها الكثير دون الحصول على شيء في المقابل، قررت تغذية هذا الوحش، وقد ظهر لها على شكل لعبة كبيرة ومنتفخة. وما كان يريده الوحش هو الشعور بالحب، وتمكنت من أن تغذي الوحش بالحب الذي كانت تحن إليه والذي لم تحصل عليه من أي أحد. وبعد أن طبقت الخطوات لبعض الوقت، دخلت في علاقة جديدة ومُرضية مع امرأة مثلها.
تعتبر العادات القهرية منفذا لوحوش العلاقات. عندما كان ديريك – وهو مهندس بيئي في الثامنة والثلاثين من عمره، على علاقة مع جوزي وهي في الأربعين من عمرها وهي تدير عملها الخاص بها في مجال التموين، كان مستعدا للتخلي عن نمط اعتاد عليه في السابق وهو ترك المرأة عندما تصبح معتمدة عليه، ولكن جوزي كانت امرأة مستقلة وتتمتع بثقة بالنفس، وكان منجذبا جدا لها، وكانت أمه تعتمد عليه وكأنه بديل لشريكها، ولذلك كان يتمرد ويتصرف بشكل ليثبت استقلاليته عندما تصبح العلاقة جدية، وانتقل ديريك وجوزي للعيش مع بعضهما البعض، لكن بعد ستة أشهر، بدأ ديريك بمتابعة الصور الخليعة على الانترنت والاستمناء كلما سنحت له فرصة، وعندما اكتشفت جوزي سلوكه وأدركت الحد الذي وصل إليه، شعرت بالخيانة وهددت بأن تتركه، لكنه وعد بأن يتوقف.
وكان ديريك يعاني من إله الشهوة ووحش الإكراه، فقد كان يحن إلى الحرية الشهوانية ويخشى الالتزام، وقد حافظ على وعده خلال الشهر الأول بعدم مشاهدة الصور الخليعة، لكنه بدأ عادة قهرية بالحصول على الجنس من خلال الهاتف كأسلوب جديد في التنفيس عن خيالاته الشهوانية. وللمرة الثانية اكتشفت جوزي ذلك وشعرت بالغضب والغيرة، وعندما توقف هذه المرة عن تلك العادة لم يعد يشعر بالإثارة مع جوزي، وإن عدم قدرته على الممارسة الجنسية بدون محفز خارجي تركه في حيرة وتشويش حول علاقته مع جوزي، ولم تعد جوزي تثق به.
وقرر ديريك اللجوء للعلاج حتى لا يخسر علاقته مع جوزي، وصدفة كان المعالج على دراية بطريقة تغذية الوحوش، وسأل ديريك إن كان يرغب بمحاولة هذه الطريقة، وقد بدا له الوحش الإله على أنه وحش أخضر اللون ونحيل وبعيون كبيرة وشفاه شهوانية، وقد كان بحاجة إلى الشعور بالاطمئنان والذي يجعله يشعر بالأمان، ولكنه كان خائفا من مشاعر الكبت والاختناق الذي كان يعانيه عندما كانت أمه معتمدة عليه عاطفيا، وما كان يحتاج إليه الإله الوحش هو الشعور بالأمان مع الشعور بالاتساع والفضاء الرحب.
بعد أن غذى ديريك الإله – الوحش تحول إلى حليف بحيث صار شبحا صغيرا من الخشب ووعده بأن يرافقه في مغامراته في الطبيعة، والتي تركها بعد ارتباطه مع جوزي، حيث أنها لم تكن تستمتع بقضاء الوقت في الطبيعة. وبدأ ديريك بتغذية الوحش كلما تحرك في داخله القهر الجنسي، وبدأ القيام برحلات التنزه في الطبيعة وحده، وقد منحه هذا ما يحتاجه من مشاعر الاستقلالية، ومنحه وقتا صحيا مع نفسه بعيدا عن جوزي دون خيانة العلاقة، وبعد فترة لم يعد يشعر بالحاجة للتنفيس الجنسي القهري، وعاد يشعر بالإثارة من جوزي ومع مرور الوقت استعادت ثقتها فيه، وتمكنوا من تعميق علاقتهم وإيجاد حميمية حقيقية بينهم.
وهناك إله وحش نجده في العلاقات وهو ما يسمى puer aeternus (وعند النساء يسمى puella aeterna)، أي الشباب الأبدي الذي يريد أن يبقى مفتوحا لكل الاحتمالات دون الالتزام ويرفض النضوج. وغالبا ما يتميز الناس الذين يعانون من هذه العقدة بالسلوكيات الشبابية الخطرة ويتجنبوا الأمور الأساسية التي يجب الانتباه لها في حياة النضوج والعلاقات الملتزمة، ومن مظاهر الإله في تلك العقدة الحنين لحالات النشوة، مثل السفر دون خطط والحلم بالطيران واستخدام المخدرات والكحول للوصول للإثارة، أما بالنسبة للوحش فهو الإدمان على المخدرات والكحول أثناء البحث عن النشوة المستمرة، وقد يؤذي الآخرين بعدم التزام المسؤولية تجاه ما يقوم به سواء كان رجلا أو امرأة. وعادة ما تكون وظائفهم موسمية أو لفترات قصيرة، ويواعدون أناسا أصغر منهم ويرغبون بالجنس دون أقل شعور بالمسؤولية.
جاء إرون من عائلة كبيرة من حيث عدد الأفراد، وشكل هذا عبئا على والده نظرا لثقل مسؤوليات المنزل، ولجأت له أمه والتي كانت تعاني من اكتئاب لفترة طويلة حتى يعتني بها بعد أن توفي والده إثر نوبة قلبية وهو في الخمسينات من عمره. وعندما بدأ بمواعدة فتيات، لم يكن يظهر التزاما أبدا تجاه أي علاقة، وعندما كان في نهاية العشرينات من عمره، تسبب في حمل امرأة وقبِل مترددا أن يرعى المولود بشكل جزئي. وحتى مع تقدمه في العمر فإنه لا يزال يرتدي ملابس أصغر بكثير من عمره، ويتصرف مع أصدقاء أبنائه كما لو أنه واحد منهم.
وفي معظم الوقت كان يصر على اتباع أساليب حياة صحية والصوم واليوغا، لكنه باندفاع يشرب حتى الثمالة، ويحاول اغواء الشابات الصغيرات، ويقود السيارة دون أي شعور بالمسؤولية. وعندما بلغ الخمسين من عمره، وحضر حفلة ابنه عندما أصبح في الواحدة والعشرين من عمره، وقد سكر يومها وبدأ يغازل صديقة ابنه، وفي اليوم التالي أخبره ابنه أنه لا يريد رؤيته ثانية.
وفي هذه المرحلة، أقر إرون أخيرا أنه يعاني من مشكلة، وقد حضر تدريب كابالا الأول حتى يتعامل مع مشكلته، وعندما تحدث للمجموعة عن إله – وحش التظاهر بأمور لا تليق بعمره، أدرك أن هذا ما كان يعاني منه، وعندما بدأ تدريب الخطوات الخمسة من تغذية الوحوش، قام بتطبيقها مع هذا الإله – الوحش، ووجد نفسه وجها لوجه مع مع مخاوفه من الكبر في السن وشعور أنه عالق، وبدت مثل كائن أسطوري يتجنب النظر في عينيه ويتنطط حوله، وبعد أن غذاه ظهر الحليف، وكان الحليف حصانا بريا، وأخبر إرون بأنه سيحميه بمجرد “وقوفه بجانبه” من وبعد أن قرر العمل مع كل من إله التوق للحرية غير المسؤولة ووحش الخوف من أن يكون محبوسا أو عالقا، قرر أن يتوقف عن شرب الكحول، وقد أدرك أنه يكبر في العمر وأنه بحاجة إلى شريكة حياة، وليس مجرد علاقات عابرة لا تؤدي به إلى أي مكان، وبدأ يتلقى العلاج وبدأ يفهم نفسه ورأى أنه يمكن أن يكون في علاقة دون أن يعيد التعاسة التي رآها في أبيه. وبدأ يتغير وتوقف عن الانغماس في الشراب ووجد فائدة في التواصل مع حليفه خلال الحوار معه، وقد تعرّف على سيدة تحب السفر وتستمتع بنفس الرياضات التي يحبها، واستطاع أن يعلن التزامه بهذه العلاقة.
يمكن أن تكون عملية تغذية الوحوش فعالة جدا في مجال العلاقات، لأن هناك الكثير من الأمور التي تظهر في حياتنا عندما ندخل في علاقة حب، وحيث أن كل شريك في العلاقة يأتي ومعه وحوشه، تلتقي وحوش الشريكين، ويمكن أن تكون وطأة ذلك شديدة، وإذا كنت في علاقة، فكر في وحوشك وآلهتك، فقد يمنحك هذا نظرة أعمق تسهل عليك التعامل مع العلاقة بطريقة جديدة، ويمكن أن تقوم بتغذية الوحوش مع شريكك بمساعدة الإرشادات السابقة في الكتاب، وهذا يمكن أن يقرب بينكما ويزيد من الانفتاح بينكما، لكن ينبغي توخي الحذر لأنه في عملية تغذية الوحوش تظهر أكثر أماكن الضعف فيك، وإذا لم يكن هناك كثير من مشاعر الأمان في العلاقة، فمن الأفضل تطبيق الخطوات مع معالج أو صديق ثقة.
إدراك الوحوش التي في داخلنا وتغذيتها يخلص العلاقة من الكثير من الضغوطات، لأن الكثير من الوحوش تظهر أثناء العلاقة وفي العادة نسقطها على شركائنا، وبالتالي نحرر أنفسنا وندخل علاقات صحية أو نشفي العلاقة التي نحن فيها الآن من خلال تغذية تلك الوحوش. وننجذب غالبا في علاقاتنا مع أشخاص يتمتعون بصفات عكس التي لدينا، ولكننا ننتقدها لاحقا مع أنها هي ما جذبنا بداية، فإن الشخص الصامت والقوي ننظر إليه فيما بعد الشخص البعيد الذي ليس على اتصال مع عواطفه، والفتاة المرحة والمتحررة تصبح في نظرنا غير مسؤولة وسطحية، وإن الصفات التي ننجذب نحوها بداية غالبا ما تخفي وراءها وحوشا لا تظهر إلا عندما تتعمق العلاقة، وربما تكون اسقاطات لأجزاء أنكرناها في أنفسنا، وعند تغذية الوحوش فإننا قد نجد الصفات التي أنكرناها في أنفسنا على أنها وحوش شريكنا في العلاقة.
وقد ترتبط وحوش العلاقة أيضا بوحوش داخلية موجودة في أفراد العائلة، مثلا قد يدفعني عدم حبي لطبيعة والدي الانتقادية إلى الارتباط بشخص أظنه شخص مختلف لكنه يظهر بعد ذلك كثير الانتقاد، ثم انتقده لأنه كثير الانتقاد، متجاهلة أنني بذلك نفسي أقوم بالانتقاد! وعندما نجلب وحشا شخصيا إلى صراع بين الأشخاص فإن ما يحدث هو أن أحد الشريكين يسقط جزءا ينكره في نفسه على شريكه الآخر، فنحن نرى هذه الأجزاء في أنفسنا وكأنها جزء من شريكنا ونزوده ببعض الإشارات التي تشجعه أو تشجعها على التصرف بالشكل الذي نسقطه عليه، ثم ننزعج ونهاجمهم، ولذلك من المفيد أن تسأل نفسك عندما تهاجم شريكك: هل هذا ما أسقطه عليه أم وحوشي الداخلية؟
وعلى سبيل المثال تزوج لن وليندا في سن صغير، وعندما أصبحا في الأربعين من عمرهما، رغب لن في أن يعيش تجارب جنسية أخرى، وبدلا من أن يكون مباشرا في كلامه معها كان دائما يتهمها بأنها تغازل أشخاصا آخرين وأنها غير مخلصة، وكان يشجعها بأن يسألها إن كانت منجذبة إلى ذلك الرجل أو ذاك، وأحيانا كان هذا يشتد حتى أنه كان يضيق عليها ويقول لها ” فقط اعترفي، لا توجد مشكلة في ذلك.” وبدأت تتساءل في نفسها أنه لربما كانت لديها هذه المشاعر بالفعل، ولكن عندما تركها ذات يوم قائلا أنه يريد أن يبحث عن علاقة أخرى، فهمت عندها أنه كان يسقط ما لديه من رغبات عليها.
ونفس الشيء قد يحدث مع شخص ينفي الغضب عن نفسه البتة، غير أنه متمرس في إثارة الغضب داخل شريكه، أو يستفزه ليغضب على شخص آخر، وتعتبر هذه الاسقاطات غالبا جزءا من الاتفاقية التي نعقدها في اللاوعي مع شريكنا الرومانسي فيما يتعلق بالوحوش: حيث يأخذ أحدهما دور الحزن في حين يأخذ الآخر دور الغضب، أنت تأخذ التفاؤل وأنا أقوم بدور التشاؤم، ولذلك عندما ننظر في علاقاتنا الحميمة من المفيد جدا أن نكون على وعي بإسقاطاتنا، وهذا يمنحنا الفرصة في أن نتولى مسؤولية تجاه وحوشنا الخاصة بنا، فلا أحد يعرف وحوشك أفضل من شريكك الحميم، وهذا ما يجعل العلاقة إما هدية لا تقدر بثمن أو تحد من نوع خاص.